بعد مقاومة طويلة لأكثر من شهرين، أعلن الرئيس ترمب هزيمته، ولكن بعد ليلة صاخبة مثيرة عندما اقتحم أنصاره الكونغرس معترضين على نتائج الانتخابات. وحتى إعلان الهزيمة جاء كما هو متوقع على طريقته المتباهية، عندما قال إن هذا ينهي أعظم فترة رئاسية في التاريخ الأميركي. مبالغة ولكن بالتأكيد أنها فترة رئاسية شديدة الإثارة من أول يوم دخل فيه البيت الأبيض؛ ليس فقط سياسياً واقتصادياً، ولكن إعلامياً؛ حيث زادت مشاهدات وقراءات حتى وسائل الإعلام المعادية له.
السؤال الأهم الآن هو: سيخرج ترمب من الباب ويذهب إلى منتجعه في فلوريدا؛ لكن هل ستخرج معه الحالة السياسية والاجتماعية والفكرية التي صنعها خلال السنوات الأربع الماضية؟ ترمب هُزم، ولكن هل هُزمت الترامبية؟ لا أحد قادر على الإجابة عن هذا السؤال؛ حتى ترمب نفسه الذي أشار في خطابه قبل يومين لمن يتوقعون عودته بعد أربع سنوات؛ حيث قال إنه مهتم بما حدث خلال الثمانية أسابيع الماضية، وليس الأربع سنوات القادمة، لم يرد أن يوهن عزيمة مناصريه في الاعتراض على النتائج الحالية والتفكير في المستقبل البعيد.
هناك قراءات فقط لمصير الترامبية بعد العشرين من يناير (كانون الثاني) الحالي. ولكي نعرف ما هو مصيرها من المهم أن نتعرف على طبيعتها. الترامبية ارتبطت بشخصية الرئيس الأميركي الـ45، وبالظروف التي ساعدت على انتخابه في 2016. شخصيته الصاخبة المثيرة للجدل والصريحة والصادمة التقت مع الظروف الداخلية التي يعيشها قطاع واسع من الأميركيين الذين يشعرون بالغضب من الأوضاع الاقتصادية المتراجعة التي يعيشونها، والأوضاع الثقافية التي جعلتهم مواطنين من الدرجة الثانية. انضم لهذا الفريق الغاضب فريق آخر جمهوري مسيّس يرى أن الحكومة في عهد أوباما تمددت ويجب تحجيمها، والقيم المحافظة تتعرض للانتهاك وتجب حمايتها، والنخبة السياسية في واشنطن تحتاج لهزة عنيفة أو حتى انقلاب كامل، كما دعا لذلك مستشاره السابق ستيف بانون. وقد رأينا عدداً كبيراً من المثقفين السود يصطفون مع ترمب ويدافعون عنه، وينتقدون الساسة الديمقراطيين الذين يستغلون معاناة السود لأغراض انتخابية صرفة.
كل هذا الغضب والهموم والأفكار انعكست بشكل واضح في خطاب ترمب السياسي والاقتصادي والثقافي الذي كان عنوانه العريض إعادة العظمة المفقودة لأميركا. تحدث عن الجدار العازل مع المكسيك الذي سيمنع دخول المهاجرين غير الشرعيين حمايةً لوظائف الأميركيين، وهاجم بشراسة النخبة السياسية بواشنطن التي سعت لإسقاطه مرتين، ودخل في معركة عنيفة مع وسائل الإعلام. رغم أن صدره خالٍ من الدين فإنه قدم نفسه مدافعاً عن المسيحية، ورفع الإنجيل أمام الكنيسة المحترقة التاريخية «سانت جورج». ورغم علاقاته الغرامية خارج الزواج دافع عن قيم العائلة المحافظة، ورغم ثرائه صور نفسه نصيراً للفقراء. كيف نفهم هذه المتناقضات؟ التفسير الوحيد أن هذه الجموع الغاضبة بحثت عن منقذ لها ووجدته في ترمب الذي عرف كيف يضغط على أزرارها الغريزية والنفسية. وبسبب خبرته في «الميديا» عرف الدرس الأول، وهو: عليك أن تعرف جمهورك المستهدف. ولهذا خاطبه بلغة بسيطة شعبية قريبة منه؛ لأنه الجمهور الوحيد المهم بالنسبة له، وهو الذي سيعيد انتخابه.
سِجِل ترمب في البيت الأبيض ناجح في السنوات الثلاث الأولى: نمو اقتصادي مطرد، وتراجع للبطالة، ولم يدخل في حروب، وقتل إرهابيين دمويين، وتفاخر أمام أنصاره قائلاً إنه قتلهم مثل الكلاب الضالة. وعندما أمر بالضربة الأولى لسوريا قال إنه كان بجانب الرئيس الصيني ويأكل كعكة شوكولاتة لذيذة، في وقت كانت الصواريخ تنهمر فيه على القواعد السورية (وقد قال مؤخراً إنه كان يفكر في قتل بشار الأسد، لو لم يمنعه وزير الدفاع حينذاك جيمس ماتيس). هذه العربة جيدة التركيب تفككت بسبب الوباء الذي يعد العنصر الأبرز الذي تسبب في هزيمته. أما السبب الثاني فهو ترمب نفسه. ترمب فعلاً هزم ترمب عندما لم يُدر المعركة مع «كوفيد - 19» بالطريقة الصحيحة، ونجح الديمقراطيون في صناعة حملة ذكية قامت على عنصرين مهمين: التركيز على فشله الكبير في إدارة الأزمة، والعنصر الآخر هو جعل الاستفتاء يقوم على شخصه أكثر منه على مشروعاتهم وأفكارهم. المترددون اصطفوا مع بايدن كراهية في ترمب الذي أثار ذعرهم بسلوكه غير الرئاسي الذي تدهور أكثر بعد الجائحة. حتى بمعايير ترمب نفسه، فقد تخطى الحدود فيما يمكن قبول صدوره من رئيس أميركي. لقد دخل في مشاحنات صبيانية مع مذيعين غير معروفين، ووصف مرة رأس النائب الديمقراطي آدم شيف بالبطيخة. يمكن وصف رئاسة ترمب بثلاث سنوات ناجحة وسنة أخيرة هي عبارة عن فقدان توازن تام استغله خصومه بذكاء. ممكن أن يوصف أيضاً بأنه رئيس سيئ الحظ، داهمه وباء في الوقت الغلط والحرج (في السنة الانتخابية الحاسمة) خرج من خفاش في سوق ووهان، لينتشر في أرجاء العالم ويخلف ضحايا بالملايين.
كل هذا يقودنا للسؤال: هل تعني نهاية ترمب أننا نشهد انهياراً للترمبية أمام أعيينا؟ الترامبية مرتبطة بكل صفاته الشخصية المذكورة سابقاً، وتعبيره بطريقة ذكية عن هموم مناصريه. ربما الجواب على الأرجح أنها ستبقى بوجوده في الساحة السياسية وستختفي بغيابه. فمن الصعب أن نركب معادلة كيميائية كالتي حدثت في الأعوام الماضية. خليط من الشخصي والظرفي. أما الجمهوريون الغاضبون منه هذه الأيام لأنه قسم حزبهم وأضر بسمعتهم (وهذا صحيح) فسوف يرضون عنه قريباً؛ لأنهم بحاجة إلى الـ74 مليوناً الذين خرجوا في عز البرد والوباء لدعمه. رغم كلمات التوبيخ الموجهة له في خطبهم أمام شاشات التلفزيون لتجييش أنصاره لاقتحام الكونغرس، فإن كل شيء سيتغير مع دخول بايدن البيت الأبيض. سيعود الصراع الحزبي بين الفريقين لطبيعته الكلاسيكية، وتبدأ من جديد العملية الانتخابية المصلحية التي تفكر في النصر فقط، حتى لو كان على يد ساسة نرجسيين وصاخبين وخارجين عن المألوف.
* المدير العام لقناتي «العربية» و«الحدث»
8:2 دقيقه
TT
هُزم ترمب... هل انتصرت الترامبية؟
المزيد من مقالات الرأي
لم تشترك بعد
انشئ حساباً خاصاً بك لتحصل على أخبار مخصصة لك ولتتمتع بخاصية حفظ المقالات وتتلقى نشراتنا البريدية المتنوعة