يوسف الديني
باحث سعودي ومستشار فكري. درس العلوم السياسية والإسلاميات التطبيقية، وعمل بالصحافة منذ عام 1999، وكاتب رأي في «الشرق الأوسط» منذ 2005، له كتب وبحوث ناقدة لجذور الإرهاب والتطرف والحركات والمنظمات الإرهابية في المنطقة. كتب عشرات الأبحاث المحكمة لمراكز بحثية دولية، ونشرت في كتب عن الإسلام السياسي والحاكمية والتطرف ومعضلة الإرهاب، وساهم بشكل فعال في العديد من المؤتمرات حول العالم.
TT

حلف الأزمات: الإعلام المضاد لرؤية السعودية واستقرار الخليج

التحوُّلات الهائلة التي عاشتها السعودية منذ تدشين «رؤية 2030» لم تكن تبلغ ذروتها إلا بعد أن شفعها مهندسها ولي العهد السعودي بعدد من المقابلات والتصريحات التي أحدثت قطيعة مع التطرف بشقيه الديني والسياسي، لا سيما أنه سمَّى الأشياء بمسمَّياتها ضمن رؤية كلّية للمشهد في المنطقة.
تحدث عن مشروع الملالي في طهران، والمشاريع الرديفة المتمثلة في تبنّي آيديولوجية الإسلام السياسي، وإعادة بعث تنظيم الإخوان بعد إخفاقه في الربيع العربي، وهو المشروع الذي يتقاطع مع مشروع ضخم للعثمانية القومية الإسلاموية الجديدة بقيادة إردوغان ومشروع تبني المعارضات للدول العربية ودول الخليج، في إطار دبلوماسية إعلامية تستثمر في الأزمات، وهو المشروع الذي أقحمت قطر سياساتها في المنطقة، بعد أن تم قطع الطريق عليها بشكل كبير في التقاطع مع التنظيمات الإرهابية في عدد من المواقع من أبرزها ليبيا، واضطرت بعد ضغوط هائلة من الرباعية إلى الضغط على القيادات التنظيمية لـ«الإخوان» إلى الانتقال إلى تركيا، وتأسيس منصات إعلامية للإعلام المضاد لدول الاعتدال.
بمعنى آخر باتت المعركة تتجاوز الحدود الجغرافية لأسباب قانونية وسياسية إلى الحدود الرقمية، ومحاولة بناء دولة سيبرانية ممولة بالكاملة تتجاوز ضيق الجغرافيا المحدودة الذي تحاول الدوحة الخروج من مأزقه، ليس عبر الاستثمار في المستقبل وإمكانات الاقتصاد، وإنما في توسيع نطاق بناء سوق سوداء سياسية ضخمة في المنطقة، والتركيز على دق إسفين الخلاف بين الرباعية، من خلال استراتيجية التركيز على استهداف مصر بالدرجة الأولى والإمارات خصوصاً، بعد أن كسرت احتكار التفاوض على السلام، ثم محاولة استهداف مشروع ولي العهد السعودي بشكل أخص فيما يخص الرؤية، ومحاولة اصطياد أي شيء يحاول الالتفاف على وعد الرفاهة والاقتصاد الموازي للنفط وجودة الحياة، وهو الجذر الذي تستند فيه إلى محاولة النفاذ بملفات صغيرة من الداخل السعودي، يتم تضخيمها بشكل اعتسافي على طريقة الابتذال الإعلامي وإعادة تدوير المحتوى الإعلامي الفوضوي على منصات السوشيال ميديا.
الاحتيال والاستذكاء من إردوغان وإعلام الدوحة من «الجزيرة» وأخواتها على استغلال الملفات السياسية في المنطقة لاستهداف دول الخليج بات مكشوفاً، سواء في استهداف مصر من خلال محاولات تقويض استقرارها بشكل مباشر ومعلن، أو من خلال الهجوم على الإمارات، خصوصاً بعد خطوتها في السلام، وهذا ما لاحظه حتى العقلاء في السلطة الفلسطينية، الذين وإن تحفّظوا على موقف الإمارات إجمالاً، إلا أنهم يدركون جيداً مسألة السيادة الإماراتية، وهو الأمر الذي جاء واضحاً في تغريدة صائب عريقات التي دعا فيها كل الفلسطينيين إلى الكفّ عن مهاجمة الإمارات، أو القيام بردود أفعال فوضوية تستجيب إلى ذلك التأليب كإحراق العَلَم، أو النيل من القيادات السياسية، وهو موقف لا يعكس العقلانية السياسية فحسب، وإنما انكشاف مشروع الاستهداف الرخيص في مسألة تحاول تكرار اللعب على عاطفة الشارع، واستغلال القضية الفلسطينية كجسر عبور لتمرير الفوضى والاستقرار واستهداف الدول، أكثر من كونه مناصرة حقيقية للقضية، والجميع يعلم أين يقف رعاة حلف الأزمات منها.
المحتوى على منصات التواصل الاجتماعي يعاني من فوضى هائلة على مستوى ضبط المحتوى والتسويق السياسي للتطرف، كما أن تلك المنصات ما زالت تعاني من أزمة قانونية ضخمة، ليس فقط في السياق العربي والإقليمي، وإنما في شكلها العالمي كما نراه في صراع الدِّيَكة في الولايات المتحدة ما قبل الانتخابات، وذلك في جزء كبير منه يعود إلى أن كبريات شركات الفضاء الرقمي، خصوصاً «فيسبوك» و«تويتر» ما زالت تصنّف نفسها كمستقبل للمحتوى يخلي مسؤوليته بشكل كبير، وليس كمنتج وناشر لها، بعبارة أخرى هو مدير للمحتوى وليس مسوّقاً للمضامين، معتمداً على الجاذبية الهائلة لتلك المنصات والربحية التسويقية التي لا تكترث كثيراً بمآلات المحتوى المضاد وكوارثه على الاستقرار وأمن المجتمعات والدول. صحيح أن هناك بعض التحولات الطفيفة على مستوى المواد الإرهابية، خصوصاً ما يبثه تنظيما «داعش» و«القاعدة»، ولاحقاً اليمين المتطرف، لكنه جاء بضغط هائل من الجمهور وأثمان باهظة من الدماء والقتلى.
أسئلة المنطقة بالأمس واليوم، رغماً عن كل هذه الفوضى السياسية التي نشهدها، ظلَّت في ملفات واضحة يدعمها الجديد، تتصل بتحديات تحسين الأوضاع الاقتصادية والمنافسة في سوق المال، ومحاولة معالجة الآثار المترتبة على الفقر المدقع، وانتشار الأمية والجريمة في بلدان الشرق الأوسط. وهي بالمناسبة اليوم باتت أسئلة «وجودية»، في كثير من البلدان التي يُتوقع أن تنهار اقتصاداتها بشكل تختلف سرعته بمقدار المعونات التي تصل إليها، بسبب أن الحصة الكبرى من الناتج القومي والمداخيل مرتبطة بقدرة هذه الدول على جذب استثماراتها وسياحها، وتصدير الأكْفاء من أبنائها ليعودوا بتحويلاتهم المالية التي تنعش الاقتصاد.
التحولات اليوم في عالم التطرف ومشاريع تقويض استقرار دول المنطقة هائلة ومتشابكة بشكل كبير، وهي في الوقت ذاته تؤسس لمخاوف كبيرة وتحديات مستقبلية، وحتماً سيكون الهمّ الملقَى على عاتق الأجهزة الأمنية في كل دول العالم كبيراً، وإذا كان الربيع العربي قد خلّف فوضى وتشرذماً مفاهيميّاً وقيميّاً وسياسياً ما زلنا نصطلي بأوارها حتى الآن، فهل يمكن لنا أن نتخيل عواقب الفوضى للإعلام المضاد الذي يستهدف أمن المنطقة، ليس عبر دعم التنظيمات الإرهابية غير المباشر، وإنما من خلال رعاية المحتوى الفوضوي والتضليلي الذي يحاول المشي على حبل القانون بطريقة البهلوان، الذي لا يكترث للعواقب على أرض الواقع والتحديات؟!