جاء مبلغ الـ750 مليار يورو (877 مليار دولار) الذي أقره الاتحاد الأوروبي، الأسبوع الماضي، من أجل جهود الإنقاذ المرتبطة بوباء «كوفيد ـ 19»، كعنصر بارز في الخطة التي أقرها الاتحاد للتعامل مع التداعيات الاقتصادية للفيروس. إلا أن ظهور نقاط تفشٍ جديدة على مستوى القارة يذكرنا بالواقع المؤلم المرتبط بالتهديد الوبائي القائم. ومع أن تلك النقاط لا تشكل موجة ثانية بعد، فإنها تبقى اختباراً خطيراً للاستراتيجيات الحكومية الساعية لتجنب وقوع موجة ثانية.
الملاحظ أن أعداد الإصابات في تزايد عبر أرجاء القارة بأسرع وتيرة منذ رفع إجراءات الإغلاق الصارمة، وإن كان إجمالي الإصابات لا يزال أقل بكثير عن ذروة التفشي التي حدثت في أبريل (نيسان).
في إسبانيا، بلغت أعداد الإصابات الجديدة اليومية الأسبوع الماضي قرابة الألف. واللافت حدوث ارتفاعات شديدة في أعداد الإصابات بمناطق محلية مثل أراغون وكاتالونيا، حيث تقرر الآن إغلاق الحانات الليلية وفرض حظر تجوال.
في بلجيكا، وجدت الحكومة نفسها مجبرة في مواجهة ارتفاع أعداد الإصابات على إقرار إجراءات تباعد اجتماعي أشد صرامة، مثل تقليص التفاعلات المباشرة بين الأفراد.
ولا ينبغي النظر إلى هذا الأمر كصدمة، بالنظر إلى التكلفة الوبائية الواضحة التي تنطوي عليه مسألة تخفيف إجراءات الإغلاق. من الطبيعي أن الأشخاص أصبحوا يتحركون بالأرجاء اليوم بمعدلات أكبر مع تخفيف الإجراءات التي كانت تفرض عليهم التزام المنازل، الأمر الذي يخلق بطبيعة الحال فرصاً أكبر أمام فيروس «كورونا» للانتشار. ورغم أن المكاتب ووسائل النقل العامة لا يزال يسيطر عليها الهدوء، فإن الشوارع الأوروبية تعج بالمتسوقين ومن يتناولون الطعام والشراب بالخارج. وتشير بيانات حركة الأفراد من «غوغل» إلى أن مستويات الزحام البشري تكاد تكون قد عادت لما كانت عليه قبل تفشي الفيروس داخل مدن مثل باريس ومدريد ولومباردي الإيطالية.
وتشير تقديرات معدل إعادة انتشار الفيروس الصادرة عن الخبراء الاقتصاديين لدى «بانك أوف أميركا» إلى أنه عاود الارتفاع إلى حوالي 1 أو أعلى داخل عدد من الدول، منها المملكة المتحدة وفرنسا وإيطاليا وإسبانيا وبلجيكا، ما يعني أن شخصاً واحداً مصاباً سينشر الفيروس في المتوسط إلى أكثر من شخص واحد آخر.
من ناحية أخرى، أبدت السلطات العامة مستوى مشجعاً من التأهب والحذر. وبينما يمكن للمرء التشكيك في ملاءمة قرار إعادة فتح الحانات الليلية في كاتالونيا، فإنه لا يمكن بأي حال اتهام الحكومات بوجه عام بالسير مغمضة الأعين نحو أزمة جديدة على صعيد الصحة العامة.
ومع أن القيود الجديدة واسعة النطاق التي فرضت في إسبانيا وبلجيكا تثير القلق، فإنَّ ثمة إجراءات «إغلاق ذكية» أضيق نطاقاً أثبتت فاعليتها هي الأخرى داخل مدن ومناطق في ألمانيا والمملكة المتحدة وإيطاليا.
ويعد ذلك شهادة تؤكد تحسن مستوى أدوات مراقبة الفيروس منذ ذروة تفشي الوباء، مثلما كتب زميلي فرديناندو جوليانو. علاوة على ذلك، فإننا نشهد في الوقت الراهن فرض صانعي السياسات بصورة حكيمة ارتداء أقنعة الوجه، رغم أنه بادئ الأمر كان يجري تثبيط الناس عن هذه الممارسة.
أما الأمر غير المطمئن فهو ظهور مؤشرات على تنامي الشعور بالسأم إزاء إجراءات التباعد الاجتماعي، خصوصاً بين الشباب. وتكشف إحصاءات في إسبانيا أن الأشخاص في العشرينيات والثلاثينيات من العمر يشكلون مصدراً جوهرياً للإصابات الجديدة، نظراً لأن الطقس الدافئ وموسم العطلات وإعادة فتح الحانات والمطاعم جعلت أخطار انتشار العدوى تبدو في نظر البعض أقل إلحاحية.
ومع أن الشباب أقل عرضة بكثير لأسوأ أعراض فيروس «كوفيد ـ 19»، فإن الحكومات محقة في شعورها بالقلق إزاء قدرة الشباب على نشر الوباء. من ناحيته، ناشد وزير الصحة الفرنسي أوليفييه فيران، الشباب، ضرورة التحلي «بحذر أكبر»، محذراً إياهم من أن المقاهي بمختلف أرجاء فرنسا يمكن إغلاقها من جديد.
مع شعور الحكومات بتردد طبيعي تجاه إغلاق اقتصادياتها من جديد، فإن قدرة أوروبا على تجنب ظهور موجة جديدة من الإصابات، وفرض إجراءات إغلاق، يعتمد كثيراً على الموارد المخصصة لإجراء الاختبارات وتعقب المخالطين من أجل إبقاء تفشي الوباء قيد السيطرة.
الملاحظ أن تحسناً كبيراً طرأ على هذا الصعيد، ذلك أن فرنسا وإسبانيا وإيطاليا تجري اختبارات على نطاق واسع للغاية، لدرجة أن ما يقدر بـ1 في المائة فقط من الاختبارات يأتي بنتائج إيجابية.
ومع هذا، تظل هناك فجوات. على سبيل المثال، عانت تطبيقات تعقب المخالطين من إخفاقات وتأخيرات، وجاء تقبل الأفراد لها محدوداً. في الوقت ذاته، تعاني معامل الاختبارات من تكدسات مع تجاوز جانب الطلب جانب العرض، ما تسبب في بطء ظهور النتائج.
ورغم ذلك، فإن هذه «الأوضاع الطبيعية الجديدة» التي فرضتها الحاجة للاستجابة للفيروس بصورة يومية، لم تكن لتمر بسهولة قط. وحتى الوصول إلى لقاح أو علاج للفيروس، ستبقى ثمة سحابة ضخمة من الشكوك تخيم فوق قطاعات أعمال، مثل الترفيه والسياحة.
تجدر الإشارة في هذا الصدد إلى أن التدفق المتوقع للسياح على إسبانيا من الخارج سيتباطأ، بعدما فرضت المملكة المتحدة والنرويج إجراء حجر صحي جديد على الأشخاص العائدين من إسبانيا. ولم تسر جميع الدول على هذا النهج، ففرنسا على سبيل المثال تحض رعاياها على عدم السفر إلى كاتالونيا فقط. ومع ذلك، فإن مخاطرة اتخاذ إجراءات كنوع من الاستجابة على مستوى الاتحاد الأوروبي تظل قائمة دوماً.
بوجه عام، رغم وجود أسباب تدعو للتفاؤل الحذر، فإن أوروبا لم تهرب بصورة واضحة من خطر حدوث موجة ثانية. والواضح أننا سنشهد صيفاً طويلاً، وربما شتاءً أشد قسوة.
7:44 دقيقه
TT
إسبانيا وما تكشفه لنا عن الموجة الثانية للفيروس
المزيد من مقالات الرأي
لم تشترك بعد
انشئ حساباً خاصاً بك لتحصل على أخبار مخصصة لك ولتتمتع بخاصية حفظ المقالات وتتلقى نشراتنا البريدية المتنوعة