من الصعوبة للغاية عدم تفكير مختلف الأوساط بشأن فيروس «كورونا المستجد» وتداعياته المتعددة.
ولقد أجريت مجموعة كبيرة من الأبحاث حول الأمر، بيد أن القليل منها ذلك الذي خضع لمراجعة وتقريظ النظراء حتى الآن. وبصرف النظر تماماً عن منطلق التحيز الأوليّ لديك بشأن الأمر، فهناك شخص ما في مكان ما قد أجرى دراسة بحثية ما، لتأكيد الأمر أو نفيه. ولأجل تنظيم التفكير، أودّ لو أنني ركزت الأضواء على ورقة بحثية واحدة، من إعداد أندرو بريغدين، كبير خبراء الاقتصاد لدى شركة «فاثوم للاستشارات المالية في لندن»، تلك التي جمعت بين دفتيها مختلف الخيوط المعنية بالأمر، وبأفضل من أي شيء آخر كنت قد قرأته حتى الآن، أو على الأقل من زاوية تنظيم عرض المشكلة لدى مديري الأصول المالية، وبطريقة مفيدة للغاية.
خلص السيد بريغدين، بعد المرور عبر عدد من التحليلات الإحصائية، إلى أن رقم التكاثر الحيوي، أو ما سماه «معدل التكاثر» – وهو يعكس عدد الأشخاص المصابين من التعرض لمريض واحد مصاب بفيروس «كورونا المستجد» – يميل إلى التناقص، بما يتفق مع انخفاض مستوى الحركة. وبعبارة أوضح، كلما ارتفع عدد الأشخاص الذين يلزمون منازلهم، انخفض عدد الأشخاص الذين يُصابون بالعدوى. ولكن من الناحية الحاسمة، فإن «معدل التكاثر» يقل أيضاً بما يتفق مع تناقص عدد الأشخاص المصابين فعلاً بالفيروس. ويعد هذا المتغير الثاني من قبيل الأنباء الجيدة للغاية. أي كلما ظهر الفيروس في بلد من البلدان بالفعل، تباطأ معدل انتشاره. ولإثبات ذلك الأثر، طرح السيد بريغدين رسماً بيانياً ضمن دراسته يعرض من خلاله كيف يمكن لانخفاض معدل الحركة أن يفسر معدلات الإصابة في المملكة المتحدة من تلقاء نفسها، عند المقارنة بمقدار التغير الفعلي في «معدل التكاثر» الذي وقع بالفعل. كان لقرارات الإغلاق العام الصارمة التي اتخذت في المملكة المتحدة، اعتباراً من شهري مارس (آذار) وأبريل (نيسان) من العام الحالي، أبلغ الأثر في كل ما يتعلق بالسيطرة على انتشار الفيروس. بيد أننا كنا نتوقع لمعدلات الإصابة بالفيروس أن تتحرك ارتفاعاً، مع بدء البلاد في العودة إلى الحياة الطبيعية بصورة تدريجية من أواخر فصل الربيع الراهن، ولكن بدلاً من ذلك، استمر «معدل التكاثر» في الانخفاض بصفة عامة، وما يزال أدنى من نسبة 1 في المائة إجمالاً.
بطبيعة الحال، كان أحد أكبر المخاوف الراهنة يتمحور حول مدى انتشار الفيروس في الولايات المتحدة، والطريقة التي يواصل الفيروس بها انتشاره عبر ولايات الحزام الشمسي الحارة، والتي شهدت أكبر معدلات التفشي والإصابة منذ بدء اندلاع الجائحة في مارس الماضي. ومما لا شك فيه، أن فشل هذه الولايات في فرض القيود الحازمة على التنقل والحركة له صلة كبيرة بارتفاع معدلات انتشار الفيروس. ولكن مع وضع السيد بريغدين لمخطط واضح يتعلق بـ«معدل التكاثر» لدى كل ولاية من ولايات الحزام الشمسي الأميركية، ومقارنة ذلك المخطط بمعدل الوفيات المسجل بالفعل، كانت هناك علاقة واضحة وقوية للغاية.
كانت الولايات ذات معدلات الوفيات المنخفضة حتى الآن تعاني من مستويات خطيرة للغاية من «معدل التكاثر» أعلى من نسبة 2 في المائة. وكانت الولايات التي عانت بالفعل من أكبر معدلات الوفيات جراء الفيروس، والتي تحاول الآن إعادة افتتاح مجريات الحياة الطبيعية، ما يزال «معدل التكاثر» لديها أدنى من نسبة 1 في المائة وبصورة جيدة.
فما الذي يحدث على وجه التحديد؟ يقوم السيد بريغدين بتقسيم الاحتمالات بصورة مفيدة للغاية إلى 5 إجابات عريضة، وهي إجابات ليست حصرية بصورة تبادلية. تعتبر الإجابات الثلاث الأولى إيجابية بصورة لا لبس فيها، من وجهة نظري على أقل تقدير، وذلك بالنسبة إلينا وبالنسبة إلى البشر أجمعين، وهي أقل أهمية من حيث احتمالات أصول المخاطر. في حين تعتبر الإجابة الرابعة سلبية إلى درجة ما، ولكنها ما تزال تشير إلى أن هناك طريقة واضحة – وإن كانت باهظة التكلفة – للمحافظة على الأضرار الناجمة عن انتشار الفيروس قيد السيطرة. أما الإجابة الخامسة فلا تمثل إلا الكابوس المريع بصورة إجمالية. تثير الخشية من الموت بسبب الفيروس تغييرات مختلفة في السلوك، مثل التكرار المفرط في غسل اليدين ومداومة ارتداء الكمامات الواقية، والتي تحول دون انتشار الفيروس، ولكنها لا تحد من التنقل والحركة.
ويعكس عدم التجانس الواضح بين جموع السكان أن لكل منا رقماً مختلفاً وفقاً لتعريف «معدل التكاثر»، مع بعض الأشخاص، بما في ذلك أولئك الذين يملكون شبكة كبيرة من جهات الاتصال والمعارف، وهم الأكثر عُرضة للإصابة بالفيروس ونقله إلى الآخرين. وبمجرد تعرض هؤلاء الأشخاص بصورة فعلية ويتجاوزون مرحلة «احتمال التعرض»، فمن شأن «معدل التكاثر» أن يعاود الانخفاض.
لقد واصل الفيروس انتشاره بوتيرة كانت أسرع كثيراً من أي اختبارات قد أجريت على الأجسام المضادة. الأمر الذي يعني أن هناك انخفاضاً ملحوظاً في عدد الأشخاص الذين يُصابون بالفيروس.
ولم تعد الفعاليات ذات التأثير الفائق في نشر الفيروس، مثل النوادي الليلية، والحفلات الموسيقية التي تضم كثيراً من الأشخاص المتقاربين بعضهم من بعض، يجري تنظيمها في أي مكان.
إنها ظاهرة موسمية الحضور في نصف الكرة الأرضية الشمالي، ولسوف تعاود الظهور في وقت لاحق من العام الحالي من خلال «الموجة الثانية».
وإنني لأرى كثيراً من آثار الحقيقة الأولى، خاصة بالنسبة لمن يعيشون في مدينة نيويورك. فمن غير الطبيعي ولا المعتاد رؤية الأشخاص الذين من دون كمامات واقية، وبات كل مبنى من مباني المدينة تقريباً يستلزم ضرورة ارتداء كمامات واقية قبل السماح بالدخول. ولم أشهد أي شخص حتى الآن في تلك المدينة يشتكي من هذه الإجراءات البسيطة. ومع رسوخ وجود الفيروس في ولايات الحزام الشمسي الحارة، فإنني أعتقد أن الممانعة القوية والمبررة لحالات الإزعاج الطفيفة، مثل ضرورة ارتداء الكمامات الواقية، سوف تبدأ في التلاشي والزوال مع مرور الوقت.
كما أنني أستطيع التصديق بأن هناك قدراً لا بأس به من الحقيقة يتعلق بالفرضية الثانية، وتحاول السلطات في الآونة الراهنة العمل على إجراء اختبارات الإصابة. وفي مدينة نيويورك خلال أيام الانتشار الأولى، كان كثير من الأشخاص ضحايا الإصابة السيئة بالفيروس الفتاك، والذين لم يكونوا في حاجة إلى دخول المستشفيات، وبالتالي لم يظهروا في الأرقام الرسمية. والفرضية الرابعة المذكورة في الدراسة منطقية للغاية، وهي لا تُبشر بأي خير لدُور السينما، والمسارح، وأعمال المؤتمرات المهنية، والرياضات التي تُمارس في الأماكن المغلقة، فضلاً عن النوادي الليلية. ولا بد أنها من قبيل الأنباء البائسة السيئة للشباب من سن العشرينات. والاستمرار من دون تنظيم تلك الفعاليات ذات التأثير الفائق في نشر الفيروس سوف يرجع حتماً بنتائج سلبية للغاية ومستمرة على الناتج المحلي الإجمالي من الناحية الاقتصادية، ولكنها سوف تكون أقل سوءاً بكثير من وقوع كارثة كبرى على الصعيد الوطني.
والموجة الحقيقية الثانية (بالإشارة إلى أن ما يحدث في ولايات الحزام الشمسي الأميركية هو امتداد للموجة الأولى من الفيروس التي ضربت ممر «آسيلا» في شمال شرقي الولايات المتحدة ما بين واشنطن العاصمة ومدينة بوسطن عاصمة ولاية ماساتشوستس) سوف تكون من قبيل الكوارث المحققة. ومن الناحية التاريخية، كانت الموجة الثانية من جائحة الإنفلونزا الإسبانية التي اندلعت في خريف عام 1918 أسوأ بكثير من الموجة الأولى التي ظهرت في ربيع نفس العام. ونظراً لاحتمالات أن تتداخل الموجة الثانية من وباء «كورونا» المستجد مع مرض الإنفلونزا الموسمية، فمن شأن الموجة الثانية أن تعصف بالسكان الذين يمانعون بشدة في العودة إلى حالة الإغلاق العام السابقة، وسوف تكون الآثار الاقتصادية الناجمة عن ذلك مريعة للغاية بالنسبة للاقتصادات المتقدمة حول العالم، وربما تسفر عن إلحاق مزيد من الأضرار الاقتصادية بأكثر مما فرضته الموجة الأولى من انتشار الوباء.
- بالاتفاق مع «بلومبرغ»
7:52 دقيقه
TT
ما مدى خطورة فيروس «كورونا»؟
المزيد من مقالات الرأي
لم تشترك بعد
انشئ حساباً خاصاً بك لتحصل على أخبار مخصصة لك ولتتمتع بخاصية حفظ المقالات وتتلقى نشراتنا البريدية المتنوعة