يتسابق العلماء مع الزمن لاكتشاف وصنع لقاح، ويسابقهم الوباء لحصد مزيد من المصابين والوفيات. بين ليلة وضحاها انقلبت حياة الناس في جميع أصقاع العالم رأساً على عقب. لم يمنح الفيروس الشرس «كورونا المستجد» أو (كوفيد - 19) وقتاً كافياً للناس ليستوعبوا ما يجري ويرتبوا أمورهم، بل أخذ يهجم عليهم خفية وبسرعة في كل اتجاه. تعطلت حركة السير في الشوارع وخلت الميادين والحدائق ودور العبادة من البشر وقد رُفِعَت شارة «قف» عند جميع التقاطعات والخطوط البرية والجوية والبحرية إلا للضرورة. شُلَّت حركة الاقتصاد ولم يعد هناك بيع وشراء إلا عبر الإنترنت أو خلال فترة محددة للخروج من البيت بعد أن فُرِض على شعوب العالم البقاء في منازلهم حتى إشعار آخر. أصبح التباعد الاجتماعي هو سمة المجتمع وتبدلت وسيلة الاتصال من المباشر إلى التقني ليزداد شعورنا بالعزلة والوحدة وقلة الحيلة أمام عدو خفي ومجهول لا يفرق بين الصغير والكبير وبين القوي والضعيف وبين الفقير والغني، فالكل سواسية.
الفرق كان في ردة الفعل ومواجهة الأزمة والتعامل معها من أعلى سلطة في البلد إلى كل مؤسسة ومواطن فيها. هناك من المسؤولين من أساء التقدير أو تجاهل أو أخفى الحقائق أو أخفق في التصرف، وهناك من تعامل بشفافية ومسؤولية وحكمة، ولم يكن الأمر مرتبطاً بمستوى تقدم الدولة ولا بنوع الحكم، بل بسرعة إدراك الخطر والتعامل معه بالشكل المناسب، ومع ذلك تظل قدرة أي دولة على الصمود أثناء الأزمة والنهوض بعدها تعتمد على إمكاناتها الاقتصادية ونظامها الصحي والتزام مواطنيها بالتعليمات وتكاتفهم في دعم بعضهم بعضاً. وبالرغم من أن الفيروس أجبر الدول على إغلاق الحدود ومنع التنقل وحظر التجول فإن التكنولوجيا أتاحت آفاق الدراسة عن بعد والعمل عن بعد وإجراء المعاملات الحكومية والمالية عن بعد والتسوق عن بعد والتسلية عن بعد والتواصل بعضنا مع بعض عن بعد وحتى العلاج والطبابة عن بعد، لتؤكد أنها العنصر الأهم في الحاضر والمستقبل. ولكن الإنسان كائن اجتماعي بطبعه فكيف ستؤثر طول فترة الانعزال وعدم الاتصال والتواصل المباشر على نفسيته، بالإضافة إلى القلق والتوتر الذي يعيشه حول مصدر رزقه، وتأثير ذلك على حياته الأسرية والمشاكل التي قد تتفاقم، وعلى الأطفال خاصة ونموهم العاطفي والاجتماعي الطبيعي، وعلى الفئات الهشة في المجتمع التي بحاجة إلى رعاية.
لقد ظهرت بعض الآراء لخبراء ومحللين تتوقع كيف سيكون شكل العالم بعد تجاوز هذا الخطر الداهم على البشرية جمعاء. فما من شك سيغير هذا الوباء كثيراً من ملامح الحياة التي نعرفها وطرق التعامل، خصوصاً استخدام التقنية، التي سيزيد اعتمادنا عليها في كل أمور حياتنا وما لذلك من تبعات. بعد انتهاء الأزمة لا بد أن يُجرى تقصٍ للحقائق ومعرفة كيف ظهر الفيروس وتفشى، ولماذا لم يتم اتخاذ التدابير الوقائية والتحذير من تفشي الفيروس في الوقت المناسب والتأهب له بالاستعدادات اللازمة، وذلك لوضع الآليات والتدابير لمنع تكرار مثل هذه الكارثة، وسيعاد تقييم العديد من أنظمتنا وسياساتنا وتعاملاتنا الاقتصادية والسياسية والاجتماعية والثقافية سواء المحلية أو الدولية. التوقعات تشير إلى تغير في موازين القوى وتفكك معاهدات دولية وسقوط حكومات ومراجعة دور المنظمات الإقليمية والدولية وأدائها وإعادة النظر في الأنظمة والمؤسسات المالية واللجوء إلى الانغلاق والانكفاء الداخلي والاكتفاء الذاتي وتقليص الانفتاح على العولمة والتصنيع والإنتاج الخارجي. وبادئ ذي بدء سيجبر هذا الوباء القادة على إعادة ترتيب الأولويات. الصحة والتعليم والبنية التحتية يجب أن تأتي في مقدمة الاهتمامات وتحظى بالميزانيات الضخمة. اليوم يقف الأبطال العاملون في الرعاية الصحية والطبية في الصفوف الأمامية يقاتلون ويدافعون بضراوة ويعرّضون حياتهم للخطر. اليوم يحبس العالم أنفاسه في انتظار العلماء من الوصول إلى اللقاح والدواء. اليوم أصبحت النظافة والتعقيم قضية أمن قومي وبأمر من الحكومة وليست خياراً. اليوم أيقنا أن الأمن الغذائي والبحث العلمي والحفاظ على البيئة أهم من الأسلحة المدمرة وقد جاء الدمار من شيء لا يُرى.
تترتب هذه التوقعات والتغييرات على ما سيجري خلال الأسابيع والأشهر المقبلة وبعد انحسار الجائحة والقضاء عليها في جميع أنحاء العالم كي لا تفاجئنا بالظهور مرة أخرى. ولكن متى سيكون ذلك؟ هذا هو سؤال الساعة خصوصاً أننا ما زلنا نبحث عن لقاح وعلاج رغم بوادر انفراجة لرفع حظر التجول. تسارع الحكومات لاتخاذ التدابير اللازمة لطمأنة الناس على وظائفهم ودخلهم وتوفير الخدمات والرعاية وتثبيت الأمن والأمان ومحاولة إعادة دوران حركة الاقتصاد. فالإنسان أولاً كما قال خادم الحرمين الشريفين الملك سلمان بن عبد العزيز، وقد أثبتت الحكومة السعودية قيادة وحنكة وحزماً في إدارة الأزمة وكسبت ثقة الشعب وتأييده ونالت تقدير العالم ودعمه لمبادراتها المحلية والدولية.
إن الحرب التي نخوضها ليست حرباً عادية. ليس هناك شيء أخطر من عدو مجهول لا تعرف عنه الكثير ولا تملك سلاحاً ضده. الخشية هي من أن تعم الفوضى وعدم الاستقرار وانفلات زمام الأمن بسبب ازدياد البطالة والفقر والعنف. تسعى الدول التي في المقدمة للحفاظ على مكانتها وتركض الطموحة للحاق بها أو أخذ مكانها، بينما تكافح التي في وسط سُلَّم التنمية درءاً للتخلف وتجاهد التي في المؤخرة لئلا تقع في الهاوية.
تستخدم الدول أسلحة الدعاية والمناورة إلى جانب سلاح المال والعلم، كل حسب إمكاناته لكسب معركة البقاء. وفي خضم كل ذلك للأسف ما زالت الصراعات والحروب دائرة والأعمال الإرهابية ترتكب كأن الفيروس في منأى عمن يقف وراءهم أو سيرحم اللاجئين والمهجرين ليضاف إلى أوجاعهم وهمومهم.
لن يكون هناك منتصر في هذه الحرب العشواء. الكل سيخرج منهك القوة ومثقلاً بالجراح والآلام. ولكن هناك من سيخرج بخسائر أقل في الأرواح والاقتصاد والسمعة لأنه أحسن إدارة المعركة. وهذه هي المرحلة التي نحن فيها الآن.
وتظل روح الإنسان المقاومة وعقله المبدع وإيمانه بالله هي التي ستنجيه. فبالرغم من غلق الأبواب والعزلة، تُفتح النوافذ والبلكونات لتصدح أصوات الدعاء والغناء وتجوب العالم رسائل الحب والفن والتفاؤل بكل اللغات وتنتشر المقاطع الترفيهية والساخرة لترسم الابتسامة على وجوهنا.
7:52 دقيقه
TT
العالم بعد الوباء
المزيد من مقالات الرأي
لم تشترك بعد
انشئ حساباً خاصاً بك لتحصل على أخبار مخصصة لك ولتتمتع بخاصية حفظ المقالات وتتلقى نشراتنا البريدية المتنوعة