الفكرة السائدة أن نظرية المؤامرة تنتشر في غياب الديمقراطية التعددية وتغير الحكم بالانتخابات، أي عند عجز المواطنين عن تغيير المسارين السياسي والاقتصادي.
فلماذا تظهر نظرية المؤامرة في أعرق الديمقراطيات ومهد أم البرلمانات؟
أكثر نظريات المؤامرة انتشاراً عبر التواصل الاجتماعي واستضافة بعض مروّجيها في إذاعات لحوار المستمعين تليفونياً، تربط انتشار «الكورونا» بأثر الموجات الصغرى لتكنولوجيا «5 - ج» الحاملة لإشارات التليفون، على قدرة خلايا الجسم الإنساني لمقاومة الفيروس القادم من الصين. وتولي شركة صينية تصنيع وتركيب معدات الشبكة وفرت الفيتامينات لنظرية المؤامرة، معرضة أجهزتها للتخريب على أيدي مواطنين مجهولين.
وهناك نظرية المؤامرة بالصدفة، كتذبذب أسعار سلعة أساسية في البورصة بلا تغير فعلي في معدلات إنتاجها أو استهلاكها، بل كرد فعل لخبر صحافي يواكبه تغير الأسعار في الأسواق، وتكاليف نقلها وتخزينها بلا أي ترتيبات أو اتصالات بين محددي الأسعار. غير العارف بحركة السوق والاقتصاد سيراها «مؤامرة»، خاصة في بلدان إنتاج السلعة المعنية، وغالباً يشترك النظام الحاكم في ترويج نظرية المؤامرة متهماً الغرب والصليبيين أو النظام الرأسمالي المعادي للاشتراكية بالتلاعب في الأسعار، مثالاً لا حصراً، حتى لا تعترف الأنظمة بأن سوء إدارتها للاقتصاد وفسادها سبب مشاكل الناس. هذه الأنظمة «تفلتر» الإنترنت حجباً لمعلومات إذا عرف بها الناس لأغنتهم عن التعلق بقشة نظرية المؤامرة في بحر المعاناة اليومية.
في الفترة الأولى من ظهور فيروس «كوفيد - 19» الجديد بدا تأثير بقايا مفاهيم الحرب الباردة ومعاداة الآخر والآيديولوجيات الراديكالية. فظهرت اتهامات للصين باختراع الفيروس لضرب اقتصاد الغرب، واتهامات بلدان الشرق الراديكالية وصحافة روسيا لأميركا وبريطانيا بابتكار الفيروس لضرب اقتصاد الصين واستهداف أمم الشرق، خاصة إيران التي أدت مساهمة أنظمة مماثلة لها في ترويج نظرية المؤامرة إلى هلاك الآلاف لتأخر التحرك العملي لاحتواء العدوى.
وماذا بشأن ظهور نظريات المؤامرة حول موجات «5 - ج» و«الكورونا» في ديمقراطية منفتحة كبريطانيا، حيث لا رقابة على حصول المعلومات وتبادلها أو على حرية التعبير؟
ثم تبعتها «المؤامرة بالصدفة» الأكثر إضحاكاً في بليتها عندما ضربت مؤسسات صحافية كبرى (كالشبكات التلفزيونية والإذاعية وفي مقدمتها «بي بي سي») عرض الحائط بمبدأ حريتي الصحافة والتعبير، داعية إلى فرض الرقابة على الإذاعات (المنافسة) التي وفرت منبراً لمروجي مؤامرة «5 - ج»، وعلى وسائل التواصل الاجتماعي، التي يلجأ إليها الناس كمصادر بديلة أو منافسة للشبكات والصحافة التقليدية.
علماء السلوك الجماعي يرون أن مجرد الانطباع لدى الرأي العام بالشك في سياسات الحكومة هو عامل مشترك يدعم نظرية المؤامرة في الأنظمة الأوتوقراطية وفي الديمقراطيات المفتوحة، لكنه أكثر تعقيداً في الأخيرة.
مثلاً إحصائية مؤسسة موري (صباح الجمعة) وجدت 78 في المائة (ارتفاع 10 في المائة عن الإحصائية السابقة) من البريطانيين يثقون بقدرة مؤسسة الصحة القومية NHS على التعامل مع الوباء، وعلى النقيض يظل 75 في المائة (رقم ثابت لأربع إحصائيات)، قلقين على أنفسهم كأفراد من القدرة على النجاة من ضرر الفيروس، وثبات نسبة 93 في المائة كقلقين في الفترة نفسها على مصير البلد.
ويبدو أن مزيجاً من غياب الاطمئنان، والخوف، والقلق تغلب على عامل الأمان التقليدي مسبباً فجوة بين ثقة الشعب في بيانات وسياسات الحكومة رغم ما تبديه من شفافية في مؤتمرها الصحافي اليومي في 10 داوننغ ستريت (ونشارك فيه كصحافيين بأسئلتنا بالإيميل واتصال فيديو) وثقة الشعب الفلكلورية بمؤسسة الصحة القومية.
الصحة القومية أيقونة في الضمير الشعبي العام وتعتبر بقرة مقدسة يخشى الساسة الاقتراب منها. فبجانب خروج الناس إلى النوافذ، وعتبات الدور للتصفيق مساء كل خميس تحية للعاملين في المؤسسة، نرى استجابة رومانسية لمبادرة جمع تبرعات للصحة القومية قام بها المحارب القديم المتقاعد الكابتن توماس موور الذي يسير بصعوبة على عكازين لجمع مبلغ متواضع بسيط مقابل كل دورة يمشي فيها ببذلته الأنيقة وكامل أوسمته العسكرية حول حديقته، الكبيرة نسبياً، قبل أن يبلغ عامه المائة نهاية الشهر، فإذا بالتبرعات تصل إلى 20 مليون جنيه (26 مليون دولار) مساء الجمعة.
لم تدرك الحكومة في البداية مدى احتمال سعة انتشار العدوى وشك الناس بتغليبها العوامل المادية على الحقائق الطبية (لا تزال ناقصة لحداثة الفيروس) عندما قللت الإرشادات من جدوى أدوات وقائية كالقفازات الطبية وقناع الأنف والفم، سواء قناع الجراحة الذي يقلل فرص نقل العدوى للآخرين، أو القناع بالفلتر المركب الأغلى ثمناً والحاجب لاستنشاق الفيروس، ليتضح أن الأسباب وراء النصيحة ليست طبية، بل التقصير في توفيرها مبكراً لشح استيرادها من بلدان تحتاجها لمواطنيها، وحماية لأولوية توفيرها للأطقم الطبية التي تعاني من النقص في أردية وأجهزة الوقاية التي قاربت على النفاد من المستشفيات، وغيابها واختبار الفحص من ملاجئ العجزة والمسنين، مما أدى لارتفاع نسبة الوفيات فيها. والتناقض مع إرشادات منظمة الصحة العالمية بضرورة اختبار الفحص للمعانين من الأعراض لتحديد حاملي الفيروس وعزلهم لمحاصرة العدوى كسياسة نجحت في كوريا الجنوبية وتايوان. الحكومة بدت مترددة باستبدال مناعة القطيع التي شكك الأطباء في جدواها، ثم غيرتها للعزل الاجتماعي باختبار الفحص، والسبب الحقيقي نقص معدات الاختبار وإمكانيات معامل التحليل الفيزولوجي. أجري 439 ألف اختبار معملي (حتى الجمعة)، مقارنة بـ1.73 مليون في ألمانيا التي تفوق بريطانيا تعداداً بـ22 مليوناً فقلت وفياتها إلى 4052 (2.9 في المائة) بين المصابين مقابل 14576 بريطانياً (13.4 في المائة) بين المصابين في المستشفيات فقط لغياب أرقام الوفيات والعدوى خارجها.
استعادة ثقة المواطن تدحر نظرية المؤامرة عند قناعته باعتذار المسؤولين لتأخرهم في الاستعداد بتوفير إمكانيات الاختبار ومعامل الفحص لعزل حاملي الفيروس.
المفارقة أنه لا يوجد «ديكتاتور» يلقي بالمسؤول المقصر «وراء الشمس»؛ لكن الاعتذار عن تجاهل سياسة نجحت في كوريا الجنوبية (وفياتها 229 بنسبة 2 في المائة من المصابين بدون العزلة الاجتماعية الكاملة كحال أوروبا) يعني الاعتراف بالخطأ. البرلمان، وقد اصطدمت لجنة الصحة فيه مع وزير الصحة واتهمته بالتقصير في توفير معدات الوقاية للأطقم الطبية عند استجوابه صباح الجمعة، وضغوط الصحافة تجعل من التحقيق القضائي public inquiry، وهو تقليد متبع في الأزمات القومية، أمراً لا مفر منه.
هاجس التحقيق العام يجعل كل مسؤول يخشى أن يتحول الاعتراف بالخطأ إلى الطبق الذي يقدم عليه رأسه السياسي عند انتهاء اللجنة القضائية من تقريرها في المستقبل.
7:30 دقيقه
TT
نظرية المؤامرة الكورونية
المزيد من مقالات الرأي
لم تشترك بعد
انشئ حساباً خاصاً بك لتحصل على أخبار مخصصة لك ولتتمتع بخاصية حفظ المقالات وتتلقى نشراتنا البريدية المتنوعة