تكاد تُجمع التقارير الجادة وغير الجادة على أن الفيروس الفتاك سوف ينهار قريباً منهكاً ويرحل. هذه التقارير ذاتها أو ما شابهها يكاد يُجمع في الوقت ذاته على أن العالم سوف يخرج من معاركه مع الفيروس مثخن الجراح، والأهم أنه سوف يخرج منحني الرأس منكسر النفس ومنهزماً. سمعت تقديرات متنوعة للفترة اللازمة ليستعيد العالم معظم ثقته بنفسه ويشرع في تنفيذ خطته لبناء مستقبل، خطة تراعي تفادي الوقوع في أخطاء الفترة السابقة وفي نفس الوقت تقفز بالبشرية قفزتها العظمى نحو مرحلة استخدامات الذكاء الصناعي. المثير في الموضوع هو أن لا أحد من هؤلاء المنجمين يعرف من قرب الحقيقة المؤلمة، وهي أن العالم لم يشغل نفسه وقت الأزمة بمحاولة وضع خطة لبناء المستقبل، كان معذوراً على كل حال بمطاردة الفيروس، في أحسن الأحوال من بيت إلى بيت ومن شارع إلى شارع وفي أسوأ الأحوال وغالبيتها من بيان رسمي إلى تصريح رسمي. لم يهتم خلال اشتداد المعارك أو هدوئها بنداءات مفكرين وصناع رأي تدعو الحكومات إلى الجمع بين المهمتين وإلا فالخسارة أفدح.
الخسارة من هنا ومن الآن تبدو فادحة رغم أن المعارك لا تزال دائرة واليد العليا للفيروس بلا منازع. كثيرون تعاملوا مع الهجمة الشريرة من جانب الفيروس بما بدا لنا في البداية استخفافاً لنكتشف أن الأمر بالنسبة إليهم لم يخرج عن كونه ضمن اعتبارات شخصية ولا يخضع لأي منطق علمي أو استخباراتي. من هؤلاء الكثيرين الرئيس الأميركي دونالد ترمب. لم يتصور أن ملاكه الحارس الذي شجعه على أن يحلم بمنصب رئيس أميركا وكلل معظم خطواته بالنجاح يمكن أن يتخلى عنه فيسلط على الولايات المتحدة وهي تحت سلطته فيروساً تافهاً بل وخفياً، كما في الروايات الشبابية والشعبية، يستنزف قواها ويتعبها ويبدد ثروتها. أنكرَ الروايات الصحية والعلمية والتاريخية ورفض أن يناقش الأفكار التي تطالبه بإعداد أميركا لمرحلة ما بعد الوباء. شهراً بعد شهر وهو يقاوم، أحياناً كان منفرداً على منصات الرفض والإنكار. ظل صامداً ما استطاع، لا تلين له قناة، لنكتشف أن الدافع كان ولا يزال حافزه البقاء في السلطة دورة ثانية كاملة رغم معارضة جماهير الديمقراطيين وقادة الإعلاميين وكبار صناع الرأي وفي صدارة كل هؤلاء ومتقدماً عليهم جميعاً فيروس تافه لا يُرى.
للعالم الخارج لتوّه من معارك دامية مع الفيروس صفات لا أظن أن اثنين سوف يختلفان عليها. تأتي في صدارة هذه الصفات صفات بعينها مثل: العالم خائر القوى، والعالم منكسر النفس، والعالم المضطرب. أعرف أن لكل صفة من هذه الصفات سلوكيات تابعة بالضرورة. لن تختلف سلوكيات عالم ما بعد معارك الفيروس عن سلوكيات معروفة علمياً وبالتجربة عن سلوكيات دولة دخلت حرباً مع عدو استهانت بقوته وانهزمت فارتبكت سلوكياتها واضطربت أمورها وفقدت مؤشرات حالها ومستقبلها وتمكّن منها الإنهاك فأقعدها. أظن أن العالم الخارج لتوّه من معاركه الدموية مع جحافل فيروسية عمياء البصر وربما البصيرة أيضاً سوف تكون تلك الصفات صفاته وتلك السلوكيات بعض سلوكياته. أزعم أن العالم، الذي بحكم وجودي فيه واطّلاعي على ما يدبّر الكبار فيه، أنه لم يستعد للمستقبل بخطة أو مشروع. أزعم أن هذا العالم سوف يبدد سنوات ثمينة في صنع وتنفيذ سياسات مرتبكة. أزعم أن قضاياه وأزماته سوف تتراكم، وأعلم عن ثقة ومعرفة بحال نظامنا الدولي الراهن أنه سوف يعجز لسنوات وربما عقود عن صنع التوافق اللازم لتسليم مقدراته لدولة قائد في منظومة أحادية القطب أو توليفة ثنائية أو متعددة الأقطاب.
دعونا لا نغرق أنفسنا في أحلام بعيدة التحقيق. لن نخرج من معاركنا الجارية مع الفيروس الخبيث لنجد أنفسنا أمام دولة عظمى تقف في انتظار وصولنا عند أول منحنى على الطريق الموصل إلى المستقبل، وقد تدلى من حقيبة يدها مشروع كامل ومتكامل لإعادة إعمار ما دمره العدو. نسيت أن أفترض في الوقت نفسه أننا، نحن دول أوروبا وآسيا وأفريقيا ودول بقية الأميركتين، سوف نصل جاهزين ومزودين بكل أدوات الإنتاج الأحدث رقمياً وفوق الرقمية إنْ وُجد شيء من هذا القبيل. خلاصة العبارة هي في أن هذا العالم غير جاهز بأي بادرة تنقذه من ويلات الاضطراب والفوضى التي تنتظره إن هو قضى غداً على الفيروس وحاول العودة إلى مسيرة اختطفه منها خصمه الذي باغته من دون إنذار.
لا قيادة واضحة أو جاهزة ولا استعداد لدى بقية الدول للتعامل معها إنْ وُجدت. من ناحية أخرى لا يوجد ضمن وثيقة معلنة أو في مكان أمين مشروع لإعادة إنعاش العالم في حال سقط من دون إنذار مسبق في كارثة أو مصيبة. ذاكرتنا الجمعية ضعيفة. وقعنا في كارثة في عام 2007 و2008 ولم نكن مستعدين. يقول خبراء إن الحلول التي ابتكرها عباقرة «وول ستريت» في نيويورك هي المتهمة الآن بأنها وراء بعض مصائبنا الكبرى والرئيس ترمب مصرّ على إعادة استخدامها أياً كان الثمن الذي سوف يدفعه رئيس آخر ونفس الشعب في كارثة أخرى بعد عشر سنوات أو أقل أو أكثر. كثيرون قرأت لهم خلال الأسبوعين الأخيرين بعضهم يلحّ في التذكير بمشروع مارشال، المشروع الذي ابتكره وزير خارجية الولايات المتحدة خلال الحرب العالمية الثانية لإعادة إعمار دول أوروبا الحليفة. سألت إن كان للوزير مايك بومبيو مشروع مماثل فيخلّده التاريخ، ولم أتلقّ ما يفيد بوجود مشروع مماثل تحت أي عنوان أو اسم أي مسؤول. يقال إن مشروع مارشال بدأ التفكير فيه في عام 1941، أي في العام الذي شهد مذبحة الأسطول الأميركي في بيرل هاربور. بمعنى آخر استطاعت أميركا إدارة حرب عالمية وفي الوقت نفسه كانت تبني للمستقبل. لاحظنا، وسوف يسجل التاريخ، أن أميركا بقيادة الرئيس دونالد ترمب لم تنفذ أياً من المهمتين. هي الآن في وسط الكارثة لا تدير حرباً عالمية ضد عدو شرس في هيئة فيروس خفي وفي الوقت نفسه لا تبني أو تصنع خطة للمستقبل.
7:44 دقيقه
TT
أيُّ مستقبل لنظام دولي منهزم؟
المزيد من مقالات الرأي
لم تشترك بعد
انشئ حساباً خاصاً بك لتحصل على أخبار مخصصة لك ولتتمتع بخاصية حفظ المقالات وتتلقى نشراتنا البريدية المتنوعة