برزت في ميدان الاغتراب العراقي شخصيات فذّة كثيرة منذ أيام العهد الملكي. ولكن لم يكن من طبعهم التبجح بمركزهم وفرض هويتهم على الآخرين. الواقع أن كثيراً ما يصطدم الإنسان بهم صدفة في مراكز مهمة في خارج العالم العربي.
كان من هؤلاء الرجال السيد جوزيف ازارية؛ أحد أبناء الطائفة الآشورية الكلدانية في شمال العراق. كان والده جورجيس ازارية مستشاراً للملك فيصل الأول في ميدان الأعمال والتجارة، فقد كان من أبرز وأنجح التجار العراقيين في الثلاثينات وخلال الحرب العالمية الثانية. ولكنه قرر الهجرة بعد الحرب إلى أميركا وكندا. استقر أخيراً في مونتريال بكندا سنة 1949. أخذ معه سائر أفراد أسرته؛ بمن فيهم ولده الشاب جوزيف أمين عندما كان في التاسعة عشرة. مثل كثير من أبناء الطائفة الآشورية، لم يتردد بصفته مهاجراً شاباً في القيام بأي عمل من الأعمال الشاقة والوضيعة. اشتغل خادماً في المطاعم والبارات، ثم تنقل بين شتى الأعمال، ولكنه كان من الشباب الطموحين. وانصبت طموحاته بصورة خاصة على عالم الصحافة، فتقدم إلى صحيفة الـ«غازيت» ليعمل فيها مراسلاً محلياً، ولكن رئيس التحرير لم يجده أهلاً للوظيفة فاستغنى عنه. ولا بد من أنه أخذ يعضّ على أصابعه فيما بعد، عندما سمع بالإمبراطورية الصحافية التي استطاع هذا الشاب البسيط إقامتها بعد أشهر قليلة.
رأى جوزيف أمين في الأخير أنه إذا قرر أصحاب الجرائد اعتباره مجرد عراقي آشوري غير أهل للعمل في جرائدهم، فلماذا لا يذهب ويصدر جريدته الخاصة به ويعمل بها؟ عقد العزم على ذلك. ولكنه لم يملك في جيبه غير 14 دولاراً. وبصفته شاباً صادقاً وأميناً ومخلصاً في تعامله، استطاع أن يستلف مبلغ ألف دولار من أحد أصحاب المطابع. وبهذا المبلغ؛ ألف وأربعة عشر دولاراً أصدر صحيفته الأولى «ميدنايت»، أي «منتصف الليل». وكانت للاسم دلالته، فقد كانت فكرته تقوم على توجيه الجريدة نحو الفضائح والصور الجذابة والتقارير المسلية، وهو طبعاً ما يلفت أنظار الناس عند منتصف الليل قبل نومهم.
ومع ذلك؛ فقد لاقى صعوبات مالية في مشروعه، فتراكمت عليه الديون وتكدست الفواتير على طاولته دون أن يعرف ما الذي يسدده منها وما الذي يستطيع أن يماطل فيه.
كانت الصعوبة الرئيسية في صغر السوق في هذه المدينة الكندية الصغيرة. ولكنه ألقى نظرة على الخريطة فوجدها لا تبعد كثيراً عن الأسواق الضخمة عبر حدود الولايات المتحدة. فبادر إلى توجيه الـ«ميدنايت» نحوها. ما هي إلا أشهر قليلة حتى ارتفعت مبيعاته لما يقرب من المليون نسخة. استطاع أن يوسّع أعماله؛ فأصدر أربع صحائف أخرى، وتولى إصدار مجلة الشرطة الكندية. تحول من مجرد خادم في مطعم إلى عملاق من عمالقة الصحافة. وكأي عراقي من القرى الآشورية الزراعية في شمال العراق؛ لم يتخلص من جذوره الفلاحية، فمضى واشترى مشاريع زراعية عدة لتربية الدواجن والماشية في كندا والولايات المتحدة وكوستاريكا. والظاهر أنه قصد هذا الميدان هوايةً، فراح يسهر على البيئة والطبيعة والحيوانات البرية.
بعبارة أخرى؛ أصبح هذا الآشوري الكلداني الشاب واحداً من أوائل المغتربين العراقيين الذين شرّفوا بلدهم الأصلي بأعمالهم ومنجزاتهم وقدراتهم، على خلاف اللاجئين الآخرين الكسالى الذين فضّلوا العيش على مخصصات اللجوء والصدقات.
TT
من شخصيات المغتربين العراقيين
المزيد من مقالات الرأي
لم تشترك بعد
انشئ حساباً خاصاً بك لتحصل على أخبار مخصصة لك ولتتمتع بخاصية حفظ المقالات وتتلقى نشراتنا البريدية المتنوعة