حمد الماجد
كاتب سعودي وهو عضو مؤسس لـ«الجمعية الوطنية لحقوق الإنسان السعودية». أستاذ التربية في «جامعة الإمام». عضو مجلس إدارة «مركز الملك عبد الله العالمي لحوار الأديان والثقافات». المدير العام السابق لـ«المركز الثقافي الإسلامي» في لندن. حاصل على الدكتوراه من جامعة «Hull» في بريطانيا. رئيس مجلس أمناء «مركز التراث الإسلامي البريطاني». رئيس تحرير سابق لمجلة «Islamic Quarterly» - لندن. سبق أن كتب في صحيفة «الوطن» السعودية، ومجلة «الثقافية» التي تصدر عن الملحقية الثقافية السعودية في لندن.
TT

جردة في ذكرى الثورات العربية

أصبحت ليالي شهر يناير (كانون الثاني) ونسائمه الباردة مرتبطة في العقل الباطن العربي بذكرى الثورات العربية أو ما أطلق عليه عالمياً بـ «الربيع العربي». دعونا بكل هدوء وعقلانية وواقعية وبعيداً عن التجاذبات السياسية والفئوية والحزبية نضع «جردة» متوازنة لموجة الحراكات الجماهيرية في عدد من الدول العربية منذ أشعل بوعزيزي النار في جسده المنهك بالفقر والعوز والظلم والاستبداد، مروراً بتطاير شرر نار بوعزيزي إلى كل من مصر وسوريا واليمن وليبيا في عامي 2011 و2012 حتى لامس هذا الشرر الثوري في عام 2019 كلاً من العراق والجزائر ولبنان والسودان.. فاصل زمني تجاوز السبع سنوات ظن الناس بعدها أن الربيع العربي مات وووري جثمانه الثرى، لكنه أثبت في الواقع والحقيقة أن رماد نيران ثورات عام 2011 كان يخبئ تحته جمراً هبت عليه الرياح في عام 2019، فطار شرره تارة أخرى فأشعل الحراك الجماهيري العربي وإنْ بصورة أقل ثورية ودموية، فأطاح الحكومة اللبنانية، إذ استقال رئيسها ودخل لبنان بعدها في مأزق سياسي حرج، وقذف ببشير السودان إلى الزنزانة والمحاكمات المذلة، وخلخل الوضع السياسي «الطائفي» الإيراني في العراق وأشعل لهيباً جماهيرياً في الجزائر أخرج بوتفليقة وعدداً من المقربين منه خارج المعادلة السياسية.
المحصلة من تجربة هذه الثورات والحراكات الجماهيرية هي أمور اتفقت عليها الحكومات العربية وشعوبها، وأمور أخرى اختلفت عليها بعض هذه الحكومات مع جماهيرها. المتفق عليه هو أن الثورات، وفي عالم العرب على وجه التحديد، منزلق خطر بل بالغ الخطورة، ونسبة نجاحها أقل بكثير من نسبة الفشل، وتمثل تجربة الثورات في ليبيا واليمن وسوريا الصورة الفاقعة للفشل المدمر الشنيع، فقد أكلت الثورات في هذه الدول أخضرها ويابسها، وأحالتها إما إلى فوضى عارمة كليبيا وسوريا أو فاشلة تمزقها الميليشيات والفساد والاحتراب الداخلي كما هو الحال في اليمن والعراق، ولم تتحول معظم دول الثورات إلى وضع اقتصادي أفضل على الرغم من أن إحدى أهم لافتات هذه الثورات هي محاربة الفساد، كما أن معظم دول الثورات والحراكات العربية، لم تتمتع بديمقراطية وسقف حرية أكثر ارتفاعاً من حالها قبل الثورات، وهذا ما جعل شريحة كبيرة من الجماهير العربية تقر واقعاً بالمقولة العربية الشهيرة (ليس بالإمكان أفضل مما كان)، واتفقت الحكومات والجماهير العربية على أن أمن الدول واستقرارها خط أحمر وهذا ما جعل شريحة كبيرة من شعوب دول الثورات ترضى بسقف الحريات المتدني والأوضاع الاقتصادية الصعبة حتى لا تنزلق دولها إلى مآلات خطرة كما جرى لليبيا وسوريا واليمن.
وأما ما اختلفت حوله الحكومات مع شعوبها وهو الأخطر والأهم والأجدر بالنظر والاعتبار، فهو أن عدداً من الحكومات التي اندلعت فيها الثورات والحراكات الجماهيرية تؤمن أن أمن واستقرار شعوبها لا يتحقق إلا بالقبضة الأمنية الشديدة وتقييد الحريات والزج بالنشطاء في السجون حتى لا يجروا البلاد إلى ثوراتٍ تُهلك الحرث والنَّسل والأمن والتنمية، وشعوبها ترى أن القبضة الأمنية الشديدة وتقييد الحريات والفساد هي البيئة الخصبة التي ينبعث منها شرار الثورات والحراكات الجماهيرية الخطرة.