بعد الهزيمة المنكرة التي لحقت بحزب العمال البريطاني تحت زعامة جيريمي كوربين في الانتخابات الأخيرة التي شهدتها المملكة المتحدة، من السهل الآن توجيه الانتقادات إلى تيار يسار الوسط الأوروبي على القيادة المزرية والتواصل الرديء مع الناخبين. وتتبادر بلدان ألمانيا، وإيطاليا مع دول أخرى إلى الذهن والذاكرة سريعاً. بيد أن يسار الوسط الأوروبي المحاصر للغاية كان يحظى بمكانة خاصة داخل أوروبا خلال العام المنصرم، وذلك بفضل مهاراته في الحكم وسياسات الكواليس الخلفية، عوضاً عن أي أفكار مثيرة نجح في طرحها على جموع الناخبين.
وربما تمكنت أحزاب تيار يسار الوسط الأوروبي على نفحة جديدة من الحياة في بعض البلدان، ولكنها محاولة كمحاولات عودة الموتى إلى الحياة مرة أخرى!
ومن دون شك فإن خطط جيريمي كوربين الراديكالية للتأميم قد أشاعت مناخاً من الذعر بين جموع الناخبين البريطانيين، وبدرجة كانت أسوأ مما يشكله خروج المملكة المتحدة من عضوية الاتحاد الأوروبي، والذي لن يتخذ زعيم حزب العمال البريطاني أي موقف حقيقي حياله. ولا يمكن إنكار حالة التباطؤ التي تشوب الحزب الاشتراكي الديمقراطي في ألمانيا، أو حالة الموات التي يقترب منها تيار اليسار المعتدل في الأجواء السياسية الفرنسية، أو أن القوى القومية المتطرفة قد نجحت في الاستحواذ على أحزاب يسار الوسط المرموقة في استطلاعات الرأي لدى كل من السويد أو فنلندا.
وبرغم ذلك، وعلى المستوى المتوسط، فإن القوى الاشتراكية المعتدلة ليست أسوأ حالاً في صناديق الاقتراع الأوروبية مما كانت عليه مع نهاية العام الماضي. إذ يبلغ متوسط انخفاض الدعم الشعبي الذي تتلقاه نحو 0.6 نقطة مئوية فقط.
والمستويات المتوسطة لا تخبرنا بالكثير من الحقيقة على أي حال. بيد أن المشهد السياسي الأوروبي عبارة عن نسيج شديد التعقيد، وفي حين أن تيار يسار الوسط يعاني من حالة تراجع واضحة لدى بعض البلدان الأوروبية الكبرى، إلا أن شعبيته في أماكن أخرى من القارة العتيقة قد بلغت مدارك القاع.
وفي عدد من بلدان ما بعد الحقبة الشيوعية، تسجل القوى اليسارية نقاطاً نوعية أفضل في استطلاعات الرأي مما كانت عليه الأوضاع مع نهاية العام الماضي. وتعد بولندا من أبرز الأمثلة على ذلك، حيث سجل اليسار الموحد أداء جيدا بصورة فاقت التوقعات في الانتخابات البرلمانية في العام الجاري بعد سنوات ممتدة من التنافس والخلاف. ويسجل تيار يسار الوسط ارتفاعاً ضئيلاً في جمهورية التشيك، وكذلك في ليتوانيا. أما في كرواتيا، يحاول الحزب الاشتراكي الديمقراطي الوصول إلى تيار يمين الوسط، ولقد فاز مرشحه البارز، وهو رئيس الوزراء الأسبق زوران ميلانوفيتش، في الجولة الأولى من الانتخابات الرئاسية. وقد كان يدعو إلى حكومة أكثر تسامحاً وأقل نزوعاً إلى القومية.
ويعتبر هذان بطبيعة الحال، ارتداداً طفيفاً في البلدان التي نادراً ما نسمع عنها في مختلف وسائل الإعلام. وهي أبعد ما تكون بالنسبة لي من حيث التواصل مع اليساريين في أوروبا الشرقية، حيث أسفرت النسخة الراديكالية من الآيديولوجية القومية عن حالة من الفوضى السياسية العارمة. ومع ذلك، يدل الأداء المحسن لليسار المعتدل على انخفاض الوتيرة بعض الشيء في البلدان التي تأرجحت بصورة قوية صوب تيار اليمين خلال السنوات العشر الماضية. وليس من شأن البندول السياسي أن يعاود الارتداد بين عشية وضحاها، لكن من المهم للغاية معرفة أن الأشخاص الذين يعملون على العبث بذلك البندول ليسوا ناجحين في ذلك تماماً.
وفي بعض البلدان، لا يمكن اعتبار أداء تيار يسار الوسط القوي نسبياً خلال العام الجاري من الأمور المستحقة للاحتفاء السياسي. فلقد أثبتت الأحزاب التي عانت من فضائح الفساد الكبرى مقدرة ملحوظة على الصمود والاستمرار.
وفي مالطا، يغادر رئيس وزراء البلاد - جوزيف موسكات - منصبه بعد تلطخ سمعة عدد من حلفائه لارتباطهم مع حفنة من كبار أثرياء البلاد في شبهة الأمر بمقتل إحدى الصحافيات. بيد أن حزب العمل المالطي الحاكم لا يزال يحظى بشعبية غالبة. وفي سلوفاكيا، أيضا، لا يزال حزب يسار الوسط الحاكم يحظى بالأغلبية الكبيرة على الرغم من الأضرار التي لحقت به جراء سلسلة من الأحداث المشابهة بصورة غير معتادة خلال العام الماضي.
والتفسير الوحيد لهذا النوع من الصمود والمثابرة يرجع إلى درجة عالية من السيطرة التي تمارسها تلك الأحزاب على الآليات السياسية الحاكمة في تلك البلدان. وهو أمر لا علاقة له إطلاقاً بشعبية الأفكار والآيديولوجيات اليسارية، وإنما هو يتعلق بمهارات الغرف الخلفية التي يمتلكها الزعماء السياسيون الاشتراكيون. وعندما تفقد الأحزاب التي هزتها الفضائح هذه الدرجة القوية من التماسك والنفوذ فإنها تتراجع وربما تنهار تماما. وفي رومانيا، تسبب سجل الحزب الاشتراكي الديمقراطي المزري في مكافحة الفساد إلى انهيار الحكومة وتراجع شعبية الحزب نفسه من المستوى الأول إلى الثاني في أغلب استطلاعات الرأي على مستوى البلاد. وفي فنلندا، لم يسفر إخفاق رئيس الوزراء الأسبق أنتي رين - الذي أساء التعامل مع إضراب عمال البريد في البلاد، عن إلحاق الأضرار بالائتلاف الحاكم ذي الميول اليسارية، وذلك لأن الأحزاب الأخرى في الائتلاف كانت على استعداد تام لإسناد نائبته سانا مارين.
والسيدة مارين هي واحدة من ثلاثة رؤساء للوزراء من تيار يسار الوسط الذين ترأسوا المنصب الرفيع في بلدانهم الأوروبية خلال هذا العام. والاثنان الآخران من بلدان الشمال الأوروبي في السويد والدنمارك. وعلى غرار السيدة مارين، فهم لم يصلوا إلى السلطة إثر النتائج الانتخابية الساحقة. ويبدو أن رئيس الوزراء السويدي قد خرج من السباق السياسي في الانتخابات الوطنية بالعام الماضي، غير أنه عاود الكرة في وقت مبكر من العام الجاري 2019 كمرشح توافقي وحيد يمكنه تشكيل الائتلاف الحاكم في البلاد. أما الاشتراكيون الديمقراطيون في الدنمارك فقد عانوا من أسوأ النتائج الانتخابية لهذا العام مقارنة بالعام الماضي، لكن حكومة الأقلية لرئيسة الوزراء الدنماركية لا تزال متماسكة بفضل أسلوبها الرخيم والسليم في التعامل مع الأمور.
أما مقدرة الديمقراطيين الاجتماعيين في حيازة الانتصارات السياسية على الرغم من تدني مستويات الشعبية التي يعانون منها فإنها تعتبر من الميزات المهمة بالنسبة لهم. وهذا هو السبب في أن الائتلاف الحاكم غير المسرور في ألمانيا لم يجابه الانهيار السياسي على الرغم من سلسلة التغييرات البائسة التي أجرتها قيادة الحزب الاشتراكي الديمقراطي، وهو الشريك الأصغر في حكومة المستشارة أنجيلا ميركل. ولا يزال أمام السيدة ميركل أقل من عامين حتى نهاية فترة ولايتها، وقد سمحت بالفعل للديمقراطيين الاشتراكيين الاضطلاع بدور أكبر في صناعة السياسات بغية تهدئة الأوضاع وبلوغ مرحلة الاستقرار السياسي المنشودة في البلاد.
* بالاتفاق مع «بلومبرغ»