هل الحرب الأميركية، المستمرة منذ عقدين من الزمان، في أفغانستان مأساة أم جريمة؟ تؤكد سلسلة تم نشرها مؤخراً في صحيفة إحدى الصحف الأميركية أنها جريمة أكثر منها مأساة. حسبما تم نشره ظل المسؤولون الأميركيون يكذبون بشكل منهجي لسنوات فيما يتعلق بفرص النجاح، في حين كانوا يقللون بابتهاج من شأن الفساد والتبعية اللذين عززهما التدخل الأميركي. يشير عنوان هذه السلسلة «أوراق أفغانستان» بوضوح إلى أنها على غرار أوراق الـ«بنتاغون» التي كانت تتناول حقبة حرب فيتنام. كذلك تشير السلسلة ضمناً إلى أن علينا رؤية هذا الصراع كحرب غير شرعية تم خوضها لخدمة أوهام وأكاذيب مثل حرب فيتنام.
مع ذلك تعد هذه طريقة خاطئة للنظر إلى الحرب في أفغانستان، والتفكير في الخيارات التي لا تزال متاحة أمام أميركا. من الأفضل عدم رؤية أفغانستان كمسرحية أخلاقية بل كمعضلة كلاسيكية تتعلق بالسياسة الخارجية حيث كل الخيارات المتاحة سيئة. أولاً حقيقة أن الحرب لا تسير على ما يرام، بمعنى أن الحكومة الأفغانية لا تقترب من الاعتماد على نفسها، واضحة منذ سنوات. صحيح أن المسؤولين الأميركيين كانوا يقللون أحياناً من السلبيات، ويسلطون الضوء على الإيجابيات، ولطالما كان يتم تقديم حوافز إلى الجنود والمدنيين الأميركيين لرواية قصة تقدم ونجاح لا قصة يأس. مع ذلك أفغانستان ليست فيتنام، التي أوضح واضعو السياسات، وأعتقد أكثر الأميركيين، أنهم كانوا يقتربون من تحقيق النصر فيها حتى هجوم تيت عام 1968.
صورت موضوعات صحافية، وتقارير تحليلية، بل حتى مذكرات لمسؤولين أميركيين، الواقع المحبط للوضع الأمني في أفغانستان لما يزيد على عقد. عندما زاد الرئيس باراك أوباما عدد القوات الأميركية بمقدار عشرات الآلاف عام 2009 كان صريحاً بشأن الواقع القاتم الكئيب الذي يواجهونه، حيث قال: «لا تزال هناك تحديات كبرى»، وأضاف: «لقد تمكنت حركة (طالبان) من اكتساب زخم كبير»، و«استعاد تنظيم (القاعدة) نشاطه، ولا يزال أداء قوات الأمن الأفغانية عادياً». اختار كل من أوباما والرئيس دونالد ترمب عدم الانسحاب من أفغانستان رغم رغبتهما الواضحة في إنهاء الحرب، وذلك لقلقهما من أن يتسبب ذلك في انهيار الحكومة الأفغانية فوراً. أفغانستان هي الحرب، التي تواصل أميركا خوضها، ليس اعتقاداً منا بأننا على وشك النجاح، بل لأننا ندرك أننا نقترب من الفشل على نحو غير مريح.
يوضح ذلك المسار الحزين إلى حد ما أخطاء أميركا وإساءتها تقدير الأمور. لقد حوّل غزو العراق خلال فترة حكم جورج بوش الابن الموارد والانتباه بعيداً عن أفغانستان في وقت حرج. لم يكن من المنطقي كثيراً بالنسبة إلى إدارة أوباما السعي وراء تنفيذ مهمة أكثر طموحاً، وهي بناء الأمة، ومكافحة التمرد في عام 2009 مع الإعلان في الوقت ذاته عن بدء انسحاب القوات الأميركية بعد 18 شهراً آنذاك. مع ذلك الواقع الأكثر شمولاً هو أنه لم تكن هناك يوماً ما وصفة سحرية للفوز بالحرب أو حتى وضع نهاية لها.
يقال أحياناً إنه كان من المفترض أن تسعى إدارة بوش وراء تسوية سياسية أفغانية حقيقية شاملة في جوهرها، وسلام مع حركة «طالبان»، عندما كانت الولايات المتحدة تتمتع بسلطة ونفوذ كبير في أعقاب النصر الأوّلي للتحالف الأميركي عام 2002، مع ذلك لا يتم وضع الاستراتيجيات وسط فراغ سياسي، وتصور سياسة داخلية، بعد أحداث الحادي عشر من سبتمبر (أيلول)، تمنح الشرعية لمجموعة تميّزت بوحشيتها، وانعدام إنسانيتها، وعزمها على التعاون مع تنظيم «القاعدة» في تنفيذ أهدافه. ربما ما لم يكن ملائماً سياسياً، لم يكن أيضاً تصرفاً حكيماً من الناحية الاستراتيجية. لم يكن هناك ما يشير حينها، كما هو الحال الآن، إلى اهتمام حركة «طالبان» فعلياً بالسياسة الديمقراطية، وتشارُك السلطة في مقابل توظيف التسوية كخدعة مرحلية في الصراع من أجل التفوق والسيادة.
فلننظر في الجدل المحيط بالاستراتيجيات التي تبنّتها الولايات المتحدة. صحيح أن الاستراتيجية الأميركية الأكثر تكلفة، وهي مكافحة التمرد القائمة على القوة البشرية، إلى جانب بذل جهود لدعم الحكم الرشيد والتنمية الاقتصادية، قد أخفقت في تحقيق الأمن المستدام، وأن تسرب المال القادم من الخارج قد دعم الفساد الكارثي، لكن تبنت إدارة أوباما تلك الاستراتيجية لأن النهج السابق القائم على التدخل التكنولوجي، الذي تبنته إدارة بوش، أسفر عن فراغ أمني، وأدى إلى تمكين أمراء الحرب القساة، وجعل الحكومة الأفغانية أقل رغبة في إبعاد الأطراف الفاعلة الرئيسية من خلال معالجة الفساد. لقد اختارت إدارة بوش تلك الاستراتيجية بدورها لخشيتها أن يتسبب الوجود الأمني الكبير في تورط الولايات المتحدة في مشروع بناء دولة لا نهاية له؛ أي كان بديل الاستراتيجية السيئة هي استراتيجية سيئة أخرى.
ربما كان النهج الصحيح هو الانسحاب بعد التنكيل بتنظيم «القاعدة» وحركة «طالبان» خلال عامي 2001 و2002. لكن كان ذلك سيتطلب قبول احتمال تحول أفغانستان إلى دولة فاشلة أو مارقة، واستعادة تنظيم «القاعدة» لنشاطه على نحو أسرع، وزعم أسامة بن لادن نجاحه في إجبار قوة عظمى على الانسحاب. يمكن للأشخاص العقلانيين الجدل، مع الاستفادة من النظر إلى الأمر بعد مرور الوقت، حول ما إذا كان على الولايات المتحدة قبول تلك المخاطر باعتبارها ثمناً لتفادي حرب أخرى تمتد لعقدين. مع ذلك تتمثل معضلة أفغانستان المأساوية في حقيقة أن للانسحاب ثمناً مثلما أن لاستمرار التدخل ثمناً.
من الجدير وضع ذلك في الاعتبار عند مناقشة أمر الانسحاب الأميركي، سواء كان أحادي الجانب أو تم بعد التوصل إلى تسوية سلمية، من جانب إدارة ترمب والمرشحين الديمقراطيين الرئاسيين البارزين. يبدو من غير المؤكد أن زيادة الضغط العسكري على المدى القريب على حركة «طالبان» سوف يسفر عن تسوية سياسية أفضل طويلة الأمد. مع ذلك هناك أسباب تدعو إلى القلق من الانسحاب. وقد كتب كارتر مالكازيان، الذي درس الحرب عن كثب، أن العواقب الأكثر ترجيحاً للانسحاب الأميركي هو سيطرة «طالبان» على أغلب أنحاء البلاد إن لم يكن على البلاد بالكامل. ومن غير المرجح أن تنفذ حركة «طالبان» نفسها هجمات إرهابية ضد الولايات المتحدة، أو تحثّ على ذلك، لكن من غير المرجح أيضاً أنها ستمنع جماعات إرهابية أخرى من ممارسة نشاطها في أفغانستان كما حدث قبل الحادي عشر من سبتمبر. يقول مالكازيان: «على الولايات المتحدة إدراك أن الطريق المباشر للخروج من أفغانستان هو التعايش مع خطر الإرهاب». وربما يكون الخيار الأفضل غير مرضٍ تماماً وهو خفض عدد القوات الأميركية إلى الحد الأدنى اللازم لتنفيذ الهجمات المناهضة للإرهاب، ومساعدة القوات الأفغانية في السيطرة على المدن الكبرى، مع تقبل سيطرة «طالبان» على أكثر المناطق الريفية النائية. ليست تلك بالنتيجة الجيدة، لكنها ليست كارثية وربما يمكن تحقيقها بثمن مقبول.
مع ذلك يظل الأمر المهم هو النظر في الخيارات المتاحة لأميركا في الماضي والحاضر على نحو يوضح كم هي صعبة. بعد عقود من الآن سوف تسلط أفضل روايات عن الحرب الأميركية في أفغانستان الضوء على الأخطاء التي ارتكبتها واشنطن، لكنها سوف تذكّرنا بأن السياسة الخارجية صعبة للغاية لأن كثيراً ما تكون كل الخيارات غير جذابة.
* بالاتفاق مع «بلومبرغ»
7:44 دقيقه
TT
حرب أفغانستان والأخطاء الأميركية الاستراتيجية
المزيد من مقالات الرأي
لم تشترك بعد
انشئ حساباً خاصاً بك لتحصل على أخبار مخصصة لك ولتتمتع بخاصية حفظ المقالات وتتلقى نشراتنا البريدية المتنوعة