مطلع نوفمبر (تشرين الثاني)، قال ماكرون إن حلف «الناتو» يعاني «موتاً دماغياً»، وتوقع أن البند الخامس من معاهدة تشكيل الحلف، الذي ينص على أن أي هجوم ضد دولة من الدول الأعضاء يعتبر بمثابة هجوم ضد جميع الأعضاء، أصبح في حكم الملغي. والأسبوع الماضي، أعرب ماكرون عن اعتقاده بضرورة تعاون الحلف مع الصين وروسيا لمكافحة الإرهاب، بدلاً عن السعي للعمل كثقل موازن لهما. أيضاً، دعا الرئيس الفرنسي لبناء جيش أوروبي مستقل، الذي سيدخل حتماً في منافسة مع «الناتو». كما تحدث عن إنهاء الصفقة الضمنية القائمة، التي بمقتضاها تشتري دول أوروبية الديون الأميركية مقابل التمتع بحماية عسكرية أميركية.
من ناحية أخرى، وعلى مدار 3 سنوات، أبدى الرئيس الأميركي دونالد ترمب سعادة غامرة بمحاولة شق صفوف حلف «الناتو». والآن، يتخذ الرئيس ماكرون، الذي سبق له الدخول في مواجهة علنية مع ترمب من قبل، المنحى ذاته.
من جهته، يسعى ماكرون لإعادة تأكيد القيادة الفرنسية داخل أوروبا في فترة يبدو خلالها العالم الديمقراطي الأكبر يسير على غير هدى. ويسعى ماكرون لجذب الانتباه نحو مشكلة حقيقية؛ أن جغرافية «الناتو» تخلق وجهات نظر متعارضة بخصوص ما يشكل التهديد الرئيسي أمام الحلف.
ومع هذا، فإن ماكرون يوضح عن غير قصد منه كيف أن أوروبا بقيادة فرنسا تبدو نموذجاً غير مستساغ أمام كثير من دول القارة، ويوضح أن حلفاء أميركا لن يكون بمقدورهم ببساطة ملء الفراغ الاستراتيجي، الذي ستخلفه أميركا حال تنحيها جانباً.
اللافت أنه منذ وقت ليس ببعيد كانت تجري الإشادة بماكرون باعتباره الزعيم الجديد للعالم الديمقراطي، ورأى كثيرون أن فوزه في انتخابات عام 2017 نجح في درء خطر تشكيل حكومة يمينية غير ليبرالية في فرنسا. من جهته، بدأ ماكرون ملتزماً بمعارضة السلوك الروسي، خاصة التدخل في الانتخابات داخل الولايات المتحدة وأوروبا، وضغط من أجل اتخاذ مواقف أكثر صرامة في مواجهة الصين. ومع أن البعض رأوا حماسه تجاه تعزيز الاندماج والتعاون الدفاعي الأوروبي غير واقعي، فإنه أبهر آخرين باعتباره جهوداً مشكورة لتعزيز النظام الدولي الليبرالي، في ظل تهديدات داخلية وخارجية خطيرة. وأخيراً، رسم ماكرون صورة لنفسه باعتباره النقيض لسلوك ترمب خلال اجتماعات القمة الغربية، في الوقت الذي حاول التأثير عليه بهدوء خلف الكواليس.
بيد أنه للأسف الشديد لم يرق لمستوى التوقعات، فقد أثار ما أطلق عليه ثورة ماكرون من الوسط ردّ فعل داخلياً قوياً للغاية. ولم تفلح جهوده في التأثير على ترمب. وانسحب الرئيس الأميركي من الاتفاق النووي مع إيران على خلاف نصيحة ماكرون. كما أعلن مرتين انسحاب واشنطن من سوريا دون إخطار فرنسا وحلفاء آخرين انضموا لحملة محاربة تنظيم «داعش». أما جهود ماكرون نحو مزيد من الاندماج الأوروبي، فقد قوبلت بتشكك من جانب أنجيلا ميركل صاحبة الشخصية الأكثر تحفظاً. وعليه، شعر ماكرون بالإحباط في الداخل والخارج، وسعى نحو زخم جديد من خلال محاكاة رئيس فرنسي آخر جعل من جهود التشتيت الدبلوماسي فناً؛ شارل ديغول.
وتماماً مثلما شكك ديغول فيما إذا كانت الولايات المتحدة ستخوض حرباً نووية لإنقاذ أوروبا، تساءل ماكرون علانية حول ما إذا كان للبند الخامس من اتفاق «الناتو» معنى حقيقي، بالنظر إلى الازدراء المتكرر الذي يبديه ترمب إزاء هذا البند، والمواجهة التي أوشكت على الصدام بين تركيا ودول أعضاء في «الناتو» في شمال سوريا. جدير بالذكر أن ديغول انتهج سياسة تفاهم إزاء روسيا على أمل خلق أوروبا حرة من القيادة الأميركية. أما ماكرون، فيقول إن الكرملين من الأفضل أن يشكل جزءاً من أوروبا، وليس كياناً منبوذاً على أطرافها.
أيضاً، شعر ديغول بإحباط بالغ إزاء تردد «الناتو» تجاه ما اعتبره بادئ الأمر التهديد الأكبر أمام المصالح الفرنسية؛ حربه الاستعمارية في الجزائر. وبالمثل، يشعر ماكرون بالقلق إزاء تركيز الاهتمام على روسيا، وكذلك على نحو متزايد على الصين وإمكانية أن يشتت ذلك الأنظار بعيداً عن الإرهاب، الذي يعتبره الخطر الأكثر إلحاحاً للأرواح والأمن في فرنسا. ومثلما أقر ديغول علاقات دبلوماسية مع الصين تتجاوز الانقسامات الجيوسياسية المرتبطة بالحرب الباردة، يقترح ماكرون الآن بناء شراكة صينية غربية لمواجهة التهديدات العابرة للحدود.
وسيشكل هذا تحولاً كبيراً، ذلك أنه تحت قيادة ماكرون اضطلعت فرنسا بدور الريادة بين القوى الأوروبية في مواجهة الادعاءات الصينية في بحر الصين الجنوبي، إلا أنه مثل ديغول، يطمح ماكرون نحو إعادة ترتيب الصورة الجيوسياسية العالمية. ويضغط الرئيس الفرنسي من أجل قيادة فرنسية أقوى في أوروبا، ونحو استقلال أوروبي أكبر عن الولايات المتحدة، ويعتبر مسألة إعادة هيكلة التحالف عبر الأطلسي المضطرب وسيلة نحو تحقيق هذه الغايات.
وتكشف مواقف ماكرون عن أزمة ثقة خلقها ترمب داخل «الناتو»، بجانب أنها تذكرنا بأن فكرة التهديد المشترك داخل التحالف انحسرت وتراجعت مع توسع النطاق الجغرافي له منذ نهاية الحرب الباردة.
من ناحية أخرى، ومع أن روسيا تشكل تهديداً سياسياً لجميع الدول الأعضاء في الحلف تقريباً، فإن قوتها العسكرية تشكل تهديداً أكبر بكثير لدول شرق أوروبا عن الأخرى المحصنة جغرافياً بصورة أفضل مثل فرنسا. ومع أن الصين تمثل منافساً اقتصادياً واستراتيجياً، الأمر الذي بدأ «الناتو» والاتحاد الأوروبي في إدراكه على نحو متزايد، فإن التهديد العسكري الذي تشكله ما يزال بعيداً.
وعليه، فإن ماكرون محق في اعتقاده بأن المواطنين الفرنسيين اليوم أكثر احتمالاً لأن يقتلوا على أيدي إرهابيين لا يتبعون دولة بعينها، عن سقوطهم ضحايا على أيدي دول كبرى منافسة. وعليه، فإنه ليس من المثير للدهشة، وإن كان هذا النهج قصير النظر، أن نجد ماكرون اليوم يسعى للتقليل من أهمية المنافسة أمام هذه الدول لصالح تأكيد ضرورة التعاون معها في مجال مكافحة الإرهاب.
ومع ذلك، فإنه حتى مع غض الطرف عن عدم منطقية هذه الفكرة، تبقى إشكاليتان كبيرتان في الطرح الذي يقدمه ماكرون. أولاً؛ ستجد هذه الأفكار تأييداً ضئيلاً للغاية داخل أوروبا ذاتها. مثلاً، تبدو دعوة ماكرون لـ«الناتو» كي يحول محور اهتمامه من احتواء بوتين باتجاه مكافحة الإرهاب، تجاهلاً متعمداً لدول شرق أوروبا التي تعيش في ظلال القوة العسكرية الروسية، والتي ضحت بجنودها في أفغانستان والعراق تضامناً مع حلفائها الآخرين في «الناتو»، رغم أنها لا تواجه تهديداً إرهابياً يذكر على أراضيها. كما أنه لن يتمكن من المضي قدماً من دون دعم ميركل، التي تشعر بالقلق إزاء إمكانية أن تسبب تعليقاته مزيداً من الضغوط على العلاقات عبر الأطلسي، بجانب أنها غير متحمسة إزاء الدفع بالقوة الاقتصادية الألمانية لدعم الهيمنة الجيوسياسية الفرنسية في أوروبا، موقف يمكن تفهمه بسهولة.
ثانياً؛ كشف ماكرون حدود فكرة أن حلفاء واشنطن بإمكانهم سد الفراغ الناجم عن تمترس الولايات المتحدة وانغلاقها على نفسها. يذكر أن الدور التقليدي لواشنطن داخل «الناتو» كان المعاونة في تسوية الخلافات والأولويات المتعارضة.
-بالاتفاق مع «بلومبرغ»