لا يكذب الرئيس دونالد ترمب وهو يؤكد مرة تلو أخرى أنه وصل إلى بيت الحكم في واشنطن بجهوده الذاتية ومعتمداً على ذكائه الخارق للعادة وقدراته الفائقة. الرئيس لا يكذب فهو الذي اختار بنفسه ما ومن شاء أن يختار ليساعده في تحقيق الفوز. لا أحد في واشنطن يستطيع أن يزعم أو ينكر بشكل مقنع أو مخلص أن الرئيس فاز فقط بفضل كتائب إلكترونية روسية التخطيط والمنشأ، اشتغلت ليل نهار خلال الحملة الانتخابية. الرئيس ترمب فاز بفضل الكتائب ولكن أيضاً بفضل ظروف وعناصر أخرى ليس أقلها شأناً كنائس الإنجيليين المتطرفين، وهؤلاء لعبوا دوراً كبيراً في دعم جورج بوش الابن. أهل واشنطن يعرفون كما نعرف أن الكتائب الإلكترونية عملت على تشويه صورة هيلاري كلينتون المرشحة عن الحزب الديمقراطي لمنصب رئيس الجمهورية ووريثة الرئيس باراك أوباما، أول رئيس أسود في تاريخ أميركا. العهد كله تعرض وقتها ويتعرض الآن لحملة إساءة تتضمنها رسالة واضحة خلاصتها «لا. لن يعود مخلوق أسمر إلى البيت الأبيض رئيساً للولايات المتحدة».
كان واضحاً أيضاً الهدف الأبعد والأشمل لهذه الحملة الشرسة في كل أبعادها. قيل لنا إنه كان مطلوباً أن تنشط الكتائب الإلكترونية وبالسرعة الواجبة من أجل شق الصفوف في الولايات المتحدة حول الديمقراطية التي هي القيمة الأهم في النظام السياسي الأميركي. أؤكد على عبارة «بالسرعة الواجبة» لأن المرحلة كانت غريبة في نشأتها وتطورها. كانت، ولا تزال، مرحلة انتقالية بامتياز. أظن بل أعلم أنه مثل كل المراحل الانتقالية بدت هذه المرحلة جوهرية وفرصة ذهبية لمن يريد أن يغير موقعه، وإن استطاع وجه العالم، تتغير المواقع ولكن لن يتغير وجه العالم من دون تغيير جوهر أميركا ودورها، القوة المهيمنة والعظمى. كان بديهياً أن يكون شق الصفوف داخل أميركا خطوة واسعة ولكن أيضاً ضرورية لمن يريد تفكيك المعسكر الليبرالي الغربي. لا يوجد حسب علمي ما يثبت أن الرئيس ترمب كان ملماً بتفاصيل الجهود المبذولة لشق الصف في بلاده وفي المعسكر الغربي على أيدي أجهزة رسمية روسية. وجد على الأقل ما يوحي بأنه جاء إلى البيت الأبيض ينقصه الاهتمام الجاد برسالة المؤسسات الدستورية الأميركية، وفي غالب الأحوال لم يخفِ احتقاره الطبقة السياسية لأميركية. مرت شهور قليلة قبل أن يتضح مدى استهانته بالسياسيين المحترفين في كل مكان، وقبل أن تتضح أيضاً أسبقية مصالحه وحساباته الشخصية على كل ما عداها بما فيها المصلحة الكبرى رغم التزامه شعار «أميركا أولاً».
***
رأينا الغرب على طريق الانحسار خلال السنوات السابقة مباشرة على آخر انتخابات تجري في أميركا. وقتها كانت الصين تتقدم في كل المجالات. تجاوزت عقبات كثيرة وأهمها على الإطلاق مسلّمة لم تصمد طويلاً كانت تزعم أن الدول لا تنهض اقتصادياً إلا في أحضان المبادئ الأخلاقية الليبرالية والممارسات السياسية الديمقراطية. أثبتت الصين - ومن قبلها روسيا تحت حكم جوزيف ستالين وألمانيا تحت حكم أدولف هتلر - لكل حاكم تمكن منه الشك في نوايا المؤسسات الديمقراطية تجاه استقرار حكمه، أن الاقتصاد يمكن أن ينمو في أحضان القمع والحكم السلطوي بمعدلات أسرع من معدلات نهوضه في ظل الديمقراطية الليبرالية. نسمع هذه الأيام صدى هذه الكلمات يتردد في أنحاء شتى من عالم اليوم. ينادي الأقوياء من حكام هذا الزمن أن أبعدوا عن دولنا أصابع الغرب الخشنة وديمقراطيتهم الخبيثة، التي حتى وإن نجحت في دول الغرب فإنها كلفتها وكلفتنا هدراً هائلاً من الموارد وعدم الاستقرار وتصدعات في أبنية الدولة.
مع ذلك يبقى المثال الصيني في وضعه الراهن محل اختبار إلى حين يتحول هو نفسه إلى نموذج قابل لتطبيقات طويلة الأمد، ولن يتحول في الأجل المنظور. الصين، كما أعرفها، ليست حالة قمعية طارئة. هناك آيديولوجيا. أقول لمن يستهين بدور الآيديولوجيا في بناء الأمم: «ليس كل الآيديولوجيات من نسيج واحد أو تصلح لكل الظروف والأجيال». لا أتصور مثلاً أن يفلح نظام عربي في اعتناق آيديولوجيا الصين وتطبيقاتها، ومع ذلك لن تتوقف الصين عن جهود عرض آيديولوجيا الحكم فيها تحت ستار ثقافتها التقليدية وأساليبها المتطورة في نشر التعليم والتشغيل، ولدينا في مبادرة الطريق والحزام المثال الناصع. ولن تتوقف دول في آسيا وأفريقيا في محاولة انتقاء سياسة أو تجربة تظن أنها تناسب حاجتها وظروفها. لا أظن أن واحدة منها أفلحت أو سوف تفلح. هناك عناصر في الآيديولوجيا الصينية وأبنيتها المؤسسية والثقافية لو غابت سقط المثال الصيني. أضرب مثلاً بالحزب الشيوعي الصيني. من دون هذا الحزب ما قامت الصين الحديثة كما نعرفها، ومن دون غرسه ليهيمن في هونغ كونغ، لا أمل في أن يعود هذا الإقليم جزءاً لا يتجزأ عن هذه الدولة.
***
قيل إذا الرأس فسد، فسد الجسد. لا مبالغة في شهادتنا أن الرأس في النظام الدولي بوضعه الراهن فاسد. ولا قفزة واسعة في الاستنتاج إن قلنا إن الفوضى الضاربة أطنابها في ساحة السياسة الدولية إنما هي من علامات فساد نخر في القمة حتى تمكن. لم يخطر على بال الأغلبية العظمى من أبناء جيلي، وبيننا اختلافات كانت شاسعة في الرؤى والأحلام، أن يوماً سوف يأتي نرى فيه النظام العربي على هيئته الراهنة. مسؤوليتنا العربية عما صار للنظام ولنا كأمة لا تحتمل اللبس ولن يضيرنا جلد عنيف للذات، فهذا بالتأكيد هو ما نستحق ونحتاج إليه، إن لم يكن لإنعاش ضمائر شاخت فليكن من أجل أجيال قادمة لن تعبد الأصنام. مسؤوليتنا لن تقبل أعذاراً سقيمة، ولكنها تتسع لتسع مسؤولية القطب المهيمن. هذه الفوضى الضاربة والمتفشية في كل ركن من أركان جغرافيتنا العربية تتحمل مسؤوليتها معنا الولايات المتحدة. إن ما فعلته بنا أميركا خلال سنوات هيمنتها يفوق في معظم جنبات تاريخنا الحديث ما فعلته القوى الاستعمارية التي هيمنت قبل أميركا. أميركا خصوصاً أميركا الترمبية ونحن، قبل أي أطراف أخرى، صنعنا هذه الحبكة التراجيدية التي نعيش فيها كلنا، كل العرب.
***
نتلقى من الغرب نصائح أكثرها فاسد وانتهازي، ونصائح من الشرق أغلبها لا يصلح لنا ولا لغيرنا. نعيش نتخبط بحلونا القليل ومرنا الوفير في أجواء شاذة.