يبدو وكأننا نخوض في مياه مجهولة في الشرق الأوسط. إذا كانت هناك قواعد أو أعراف تقيد التصرفات التي يمكن أن تنتهجها دولة ضد جيرانها، فيبدو أنها انتهت. في الحقيقة، تجاوز استخدام إيران للميليشيات العميلة غير التابعة للدول حدود التهديدات من النوع الذي قد يستفز ردود فعل إقليمية ودولية، نظراً لكونها شديدة الخطورة. في المرحلة الراهنة، خصوصاً بعد الهجوم على بقيق، ليس من الواضح ما نوع الاعتداءات التي سوف تسفر عن ردود فعل قوية للغاية. كما يزداد حجم الشكوك واحتمالات إساءة التقدير مع زيادة العلم بتردد إدارة ترمب في الحفاظ على مصالح أميركا الطويلة الأجل المتعلقة بأمن المنطقة.
إذا نظرنا إلى الإشارة التي بعث بها الرئيس ترمب، عندما أعلن في يونيو (حزيران) أنه نظراً لأننا لا نحصل على نفطنا من الخليج، يجب على من يفعلون (وليس على الولايات المتحدة) أن يتحملوا المسؤولية الأساسية بحماية تدفق البتروكيماويات من المنطقة.
وبقوله هذا، عَكَس مبدأ كارتر المعلَن في يناير (كانون الثاني) عام 1980، الذي أعلن فيه الرئيس جيمي كارتر أن الولايات المتحدة لديها مصلحة أمن قومي رئيسية في الخليج، و«سوف نتحرك لحماية مصالحنا وشركائنا في المنطقة».
اعتنق كل رئيس جاء بعده هذا المبدأ، ولكن من الواضح أن الرئيس ترمب لم يفعل. وبالإضافة إلى تجنبه للردود العسكرية - الصريحة أو الخفية - على إسقاط إيران لطائرة «درون» أميركية، وشنِّها هجوماً على منشآت نفطية سعودية ذات أهمية، يوضح ترمب أن مصالحنا الأمنية أصبحت أكثر محدودية بكثير. لا عجب أن إيران تجرأت.
لا يتوقف الأمر على تجرؤ إيران في المنطقة؛ فهي تشعر أنها تملك تصريحاً بالتحرك ضد جيرانها، دون حاجة إلى القلق بشأن رد أميركي على استفزازاتها؛ فهي لم تعد تحترم مظلّة الردع الأميركية التي تغطي أصدقاءها في المنطقة. علاوة على ذلك، بالنظر إلى رغبة الرئيس في إبرام اتفاق، يزداد اعتقاد قادة إيران بأن ضغطهم المقابل ضد ضغوط ترمب «الاقتصادية» القصوى سوف يجبره على التراجع.
في الحقيقة، يشير ما يتردد عن استعداده للموافقة على نقاط الرئيس الفرنسي ماكرون الأربع (وهي نقاط تتعلق بموافقة ترمب على رفع العقوبات، ليس التي أعاد فرضها حينما انسحب من خطة العمل الشاملة المشتركة فحسب، بل كذلك العقوبات التي تم فرضها في 2017) إلى استعداد ترمب لتهدئة التوترات، وتخفيف الضغط المالي على إيران.
لَمّح علي خامنئي المرشد الأعلى الإيراني إلى ثقة إيران، وخطواتها الوشيكة، عندما ذكر في مايو (أيار) أن الولايات المتحدة تسعى لاستخدام الضغوط الاقتصادية لإضعاف الجمهورية الإسلامية، من أجل إجبارها على العودة إلى طاولة المفاوضات، وتقديم مزيد من التنازلات. لم يكتفِ بإعلانه أن هذا سوف يفشل، بل صرّح بأن الجمهورية الإسلامية سوف تمارس «نفوذها». ومنذ ذلك الحين شهدنا كيف اعتدت سراً على ناقلات نفط في حادثين منفصلين، وجعلت ميليشياتها العميلة في العراق تطلق النار على قواعد في شمال بغداد، حيث تقع القوات الأميركية، وجعلت الحوثيين يستخدمون طائرات «درون» للهجوم على محطات ضخ النفط والمطارات المدنية في السعودية، وجهَّزت لشن هجوم بطائرة «درون» على إسرائيل، الذي استبقه الإسرائيليون، وبالتأكيد شنت إيران هجوماً بطائرة «درون»، و«كروز»، ضد منشأة نفط سعودية مسؤولة عن 5.5 في المائة من إمداد النفط العالمي.
وفي أثناء الاجتماع السنوي لقيادة «الحرس الثوري» الإيراني في الثاني من أكتوبر (تشرين الأول)، كان المرشد الأعلى الإيراني شديد الثقة في إعلانه أن حملة «الضغوط القصوى» الأميركية غير فعالة، فقد فشلت في إجبار إيران على الركوع، ولن تتمكن مطلقاً من ذلك.
لم تتمكّن إيران من التعامل مع الضغط فحسب، بل كانت الولايات المتحدة هي التي تواجه المشاكل، إلى درجة أن السياسات الأميركية تتسبب في «مشاكل» لها. كما تؤثر «الإجراءات الفعالة» التي تتخذها إيران، على حد وصف مراقب إيراني، على الولايات المتحدة، ويشير قرار إيران برفض نقاط ماكرون إلى أن المرشد الأعلى لا يشعر بالحاجة إلى تخفيف حدة التوترات الآن.
ووفقاً لما ذكره مسؤولون فرنسيون، تقَبّل روحاني محتوى النقاط الأربع، التي تجبر إيران على العودة إلى الالتزام بخطة العمل الشاملة المشتركة، والقبول بالحديث حول إطار عمل طويل الأجل بشأن القضية النووية، والموافقة على تجنّب النزاع في المنطقة، مقابل رفع العقوبات التي تعود إلى عام 2017، والقدرة على بيع نفطها وإعادة الإيرادات إلى البلاد دون قيود.
تتطلب هذه النقاط من الإيرانيين فعل القليل، فقد قالوا إنهم سيعودون إلى الالتزام بحدود الاتفاق النووي إذا رُفعت العقوبات، ويتحدثون عن الحد من التوترات الإقليمية، ويقولون إن التصديق على البروتوكول الإضافي جزء من إطار عمل طويل الأجل للمسألة النووية، ولا تتطلب أي من هذه الأمور أي تنازلات فعلية من جانبهم، وفي المقابل، يتم رفع العقوبات.
النقطة الأكثر إثارة للاهتمام هي أن الإيرانيين لم يوافقوا على الاجتماع الذي توسط فيه ماكرون (وهو ما أراده الرئيس ترمب)، لأن روحاني أصرّ على أن يرفع ترمب العقوبات مُسبقاً قبل الاجتماع، ولم يرغب الرئيس في فعل ذلك إلا بعد الاجتماع.
إذا كان هذا هو السبب الحقيقي وراء عدم إتمام التفاهم ذي النقاط الأربع، فمن المحتمل أن يتم التوصل إلى اتفاق في وقت قريب. ليس من الصعب افتعال قبول وتنفيذ بالتوازي. وربما كانت هناك أسباب أخرى؛ إما أن ترمب لم يكن مستعداً حقاً لمثل هذا التفاهم، وإما لم يكن خامنئي مستعداً لرفع الضغط عن الإدارة بعد.
يكمن الخطر هنا في أن الإيرانيين قد يتمادون ويستفزون ترمب، في وقت يواجه فيه ضغوطاً داخلية محلية أيضاً.
من مصلحة الجميع أن يتم تخفيف حدة التوترات. ولكن من الضروري أيضاً أن يفهم الإيرانيون أن الشكوك الراهنة في المنطقة يمكن أن تمثل خطورة عليهم أيضاً، وأنهم ليسوا أقوياء كما يظنون، وأنه بدلاً من استمرار محاولة زيادة الضغوط، من مصلحتهم أيضاً التخفيف منها.
ربما يعتقد المرشد الأعلى أن العقوبات سوف تجعل إيران في النهاية أكثر اكتفاء بالذات، وهو الهدف الذي أكّده باستمرار طيلة الأعوام العشرين الماضية.
لكن في الحقيقة تؤدي المصاعب الاقتصادية التي تتعرض لها إيران إلى مزيد من الاستياء داخل البلاد وعرقلتها.
ما يجعل الوضع الراهن خطيراً للغاية أن خطأً واحداً فحسب قد يؤدي إلى نزاع واسع في المنطقة، ولن يكون الإيرانيون محصنين ضد تبعات مثل هذا النزاع.
من الأفضل التحلي بالحكمة الآن بدلاً من الندم فيما بعد.
* خاص بـ «الشرق الأوسط»
8:59 دقيقة
TT
تخفيف حدة التوتر في المنطقة ضرورة جماعية
المزيد من مقالات الرأي
لم تشترك بعد
انشئ حساباً خاصاً بك لتحصل على أخبار مخصصة لك ولتتمتع بخاصية حفظ المقالات وتتلقى نشراتنا البريدية المتنوعة