سوسن الأبطح
صحافية لبنانية، وأستاذة جامعية. عملت في العديد من المطبوعات، قبل أن تنضم إلى أسرة «الشرق الأوسط» بدءاً من عام 1988، كمراسلة ثقافية من باريس، ثم التحقت بمكتب الجريدة في بيروت عند افتتاحه عام 1995. تكتب بشكل رئيسي في المجال الثقافي والنقدي. حائزة درجة الدكتورة في «الفكر الإسلامي» من جامعة «السوربون الثالثة». أستاذة في «الجامعة اللبنانية»، قسم اللغة العربية، عام 2001، ولها دراسات وأبحاث عدة، في المجالين الأدبي والفكري.
TT

هل تعرفون بيرنرز لي؟

العالم مدين للمخترع البريطاني تيم بيرنرز لي، بالشبكة العنكبوتية التي غيرت حياتنا وبدّلت مفاهيمنا، ومع ذلك لا نذكره، ولا نردد اسمه، ولم تَمُنّ عليه «نوبل» بجائزتها، مع أنها أعطتها لمن كانوا أدنى منه براعة وتأثيراً، وأقلّ ضميراً وحرصاً على إنسانية اختراعاتهم أيضاً. احتفى قليلون، هذا العام، وبعض الاختصاصيين فقط، بإنجاز بيرنرز لي الرائع الذي مرّ عليه ثلاثون سنة، خلالها تغير مجرى حياتنا، وتبدّلت ممارساتنا اليومية، وعاداتنا المهنية. الرجل لم يخترع الإنترنت التي كانت موجودة ومستخدمة عسكرياً على نطاق ضيق من قبل الأميركيين منذ نهاية ستينات القرن الماضي، لكنه عام 1989 هو الذي جعل للإنترنت شبكة عنكبوتية عبر القارات، تصل إلى كل بيت، وشرّع لها أبواباً ومواقع ومداخل، وأرادها مجانية في متناولنا جميعاً، من دون مقابل. وهو ارتأى ذلك قصداً وإدراكاً وفهماً لما يمكن أن تقدمه من خدمات وتسهله من معاملات.
لكن بعد ثلاثة عقود يراجع بيرنرز لي، الذي لم يكن مخترعاً وحيداً بالطبع، لكنه الأبرز والأهم، حساباته محبطاً من بعض الاستخدامات الشائنة التي لم تخطر له على بال. غالباً ما يفرح العلماء باختراعاتهم كالأطفال، ويصدمون وهم يرون الآخرين يدجنونها كالشياطين. ولا يزال بيرنرز لي يؤمن بأن ثمة ما يمكن فعله، للحد من الأذى المتعمد الذي يمارسه طغاة الشبكة، والاستخدامات المريعة مثل بثّ الأخبار المضللة عمداً، وغسل العقول عند كل مفصل سياسي، كما استغلال البيانات الشخصية بأسوأ السبل وأكثرها امتهاناً للفرد واستخفافاً بخصوصياته. يصعق وهو يرى كيف تم التلاعب بنتائج انتخابات في أكثر من بلد، وحصل التأثير على الناخبين، في مواضع خطيرة، كما في استفتاء خروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي.
لا يبدو أن ألفريد نوبل كان متأثراً كثيراً لأن اختراعه للديناميت خرج عن وظيفة تفجير الصخور وشق الطرقات وحفر الآبار، واستخدم في القتل.
كان صناعياً وتاجراً، واستمر في عمله حتى بعد أن قضى شقيقه الأصغر إميل بتفجير وقع بالخطأ، أطاح بالسقيفة على رأسه ومعه آخرون. وأتت الجائزة العالمية التي أوصى بها، بمثابة محاولة تكفير عن ذنب لم يتوقف خلال حياته عن ارتكابه أو حارب من أجل تصحيحه، وهي أيضاً تشبه محاولة تبييض لصورة من الصعب تلميعها.
لكن بيرنرز لي من صِنف إنساني مختلف تماماً. وهو بقي يراقب، من خلال المواقع التي يحتلها أكاديمياً وبحثياً، خلال السنوات الماضية بقلق شديد الانحرافات التي تتعرض لها شبكته الأثيرة، ويسعى لوضع أسس تضبط التفلّت، ولا يزال مؤمناً بأن السنوات الثلاثين المقبلة لا يمكن أن تكون محكومة بفوضى الفترة التي سبقتها. سعى عام 2018 لعقد نوع من ميثاق يضبط حقوق الأفراد والحكومات والشركات، ويضع حداً للتجاوزات، لكنه سرعان ما أدرك أن هذا النوع من القوانين سيبقى نظرياً؛ لأنه لا يلائم مزاج الأطراف الأكثر قوة واستفادة من الوضع الحالي. وهي جهات ستفعل المستحيل لتبقي ميثاقه حبراً على ورق.
حالياً يعمل هذا العالم الفيزيائي؛ الذي كان يفترض أن يكون قد بدأ تقاعده واستسلم لشيء من الراحة بعد كل ما أنجزه إلا إن شعوره بالخطر يؤرقه، مع جامعة ماساتشوستس على مشروع تقني هذه المرة، وليس إنشائياً أو حقوقياً كما المرة السابقة، وقدم الحل الذي لا تريد أن تسمع به الشركات التكنولوجية العملاقة، ويقضي بأن يتم الفصل بين البيانات الشخصية والخدمات الأخرى؛ بحيث يمكن للبيانات أن تبقى محفوظة لدينا، أو على سحب افتراضية مؤمّنة، أو في مكان لا تمتد إليه يد الشركة المستغلة لتبيعها أو توظفها أو تجري إحصاءاتها عليها كيفما شاءت. الخبر الجميل أن مشروع «سوليد» هذا الذي يقوده بيرنرز لي بالنسبة له ممكن جداً تقنياً، وتطبيقه سهل ويمكن أن يوضع محل التنفيذ من دون عراقيل، وقد أنجز بالفعل وعرض على من يعنيهم الأمر.
لكن الخبر السيئ أن هذا النوع من القيود سيقطع أرزاقاً، ويقلص ثروات جبابرة العالم، وحكام الكوكب الجدد، وهو ما سيجعل رغبات مبتكر الشبكة والحالم بحريتها وحياديتها وموضوعيتها، لفترة طويلة من الزمن، ضرباً من الأحلام. والسبب هو نفسه كما في الدول الديمقراطية التي تنحدر إلى منزلقات توتاليتارية ذات أقنعة مبهرجة، لا بسبب دهاء حكامها، وإنما بفضل لا مبالاة مواطنيها ومحدودية وعيهم. فالمواطن الكوني لا يزال سعيداً بأفراحه التواصلية، مبتهجاً بعلاقاته الافتراضية الممتدة في الكوكب، ولا يبدي كبير اعتراض على إمساك الشركات الكبرى بمفاصل حياته، وتفاصيل مزاجه، وحتى أرقامه المالية والبنكية. ولم يحدث لغاية اللحظة أن اتفقت مجموعة بشرية وازنة على مقاطعة، ولو لساعات، لهذه الشركة أو تلك للمطالبة بحقها في حماية خصوصيتها.
هذه اللامبالاة الجارفة من قبل المستخدمين تصعّب مهمة عالم الفيزياء الذي يتفانى من أجل ألا يبقى اختراعه من بعده مسبّة له، وعاراً عليه. وكأنما مخترع الشبكة ومبتكرها الحريص على مسارها، والأدرى بأحوالها، يصيح في وادٍ والمستخدمون المخدوعون يعيشون في وادٍ آخر.
وعلى أي حال؛ من الآن رفضت شركات كبرى كثيرة اقتراح «أبو الويب» وعلى رأسها «غوغل» التي عدّت أن تطبيق مشروعه فصل البيانات وحمايتها الكلية، سيكون خطيراً للغاية، لأن استهداف المعلنين للأشخاص المعنيين بالإعلان سيصبح مستحيلاً. لهذا تعدّ «غوغل» ومعها أخواتها ممن رفضن المشروع، أنها اتخذت ما يكفي من الإجراءات لحماية خصوصية العباد، ولا تستطيع فعل أكثر من ذلك دون أن تخسر إعلاناتها وخدمات أخرى بنتها على ما منحناها من معلوماتنا الأكثر حميمية.
لله درّك يا بيرنرز لي؛ لقد وضعتنا في ورطة، نرفض نحن أنفسنا أن نساعدك في إخراجنا منها.