مهما حدث بشأن خروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي، فسيخضع التأييد السابق لرئيس الوزراء بوريس جونسون لقضية الهجرة للاختبار. حتى الآن، يبدو أنه يستسلم للضغوط السياسية القصيرة الأجل للحد من الهجرة على حساب السياسات التي تخدم مصالح بريطانيا على المدى الطويل. والنتيجة هي أن الملايين من مواطني الاتحاد الأوروبي القلقين الذين يعيشون في المملكة المتحدة يتساءلون عما إذا كان ينبغي عليهم حزم حقائبهم.
لقد بات السياسيون المحافظون لسنوات الآن شعبويين في موقفهم تجاه هذه القضية، وبلا أي إحساس بالخجل. فهم غير مستعدين لتحدي قصة شعبوية ترى أن معظم الهجرة تهديد، أو على الأقل إزعاج. بدأ رئيس الوزراء السابق ديفيد كاميرون في تشديد خط الحزب بشأن الهجرة عام 2012، كوسيلة لعرقلة السياسة القوية التي تبناها نايجل فاراج (رئيس حزب الاستقلال الذي طالب بخروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي) ضد المهاجرين، وثبت أنه منحدر زلق إلى استفتاء خسره في النهاية.
وبالنسبة للانقسام القديم بين اليسار واليمين، الذي يميز الناخبين المحافظين عن الناخبين العمال، فقد تحول إلى شيء يشبه النظرة العالمية «المفتوحة» مقابل النظرة «المغلقة»، أو المقيمون في «مكان ما» مقابل «لا مكان»، أو كما وصفها ديفيد جودهارتيد: «القبلية الجديدة» التي تلعب على خوف ناخبي الطبقة العاملة من المهاجرين.
وقررت تيريزا ماي، وهي من صقور الهجرة منذ فترة طويلة في وزارة الداخلية، أن الدرس الذي تمخض عنه التصويت على خروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي عام 2016، هو أن مراقبة الحدود والحد من الهجرة هما ضمن أهم أهداف السياسة العليا.
وقد لعبت وسائل الإعلام في المملكة المتحدة، أو عناصرها، دوراً رئيسياً في تشكيل المواقف العامة تجاه الهجرة. فقد خلصت دراسة أجراها مرصد الهجرة بعد التصويت على خروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي إلى أن التغطية تميل نحو اللغة التي تزيد من المخاوف، بأن تكررت واستحدثت كلمات مثل: «غير قانونية» و«أوروبية».
وأصبح كل من كاميرون وماي رهينين لتلك القوى، وسيكافح جونسون أيضاً لمقاومتهم. ورغم ميله الفكري والغريزي، فهو في الحقيقة ليبرالي في سياسة الهجرة. وبصفته كان عمدة للندن، فقد أشار جونسون غالباً إلى أنه من نسل المهاجرين (كان جده الأكبر تركياً)، وقال في فترة سابقة: «أنا على الأرجح السياسي الوحيد المستعد فعلاً للوقوف والتصريح بأنه مؤيد للهجرة».
لكن تلك الغرائز الليبرالية حول الهجرة جرى تعليقها بغرض جمع الأصوات، خلال حملة خروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي عام 2016 التي تصدرها جونسون، حيث أطلقت الحملة ملصقاً شهيراً يقول: «تركيا البالغ عدد سكانها 76 مليون نسمة ستنضم إلى الاتحاد الأوروبي. صوّت بالخروج لتستعيد زمام السيطرة» (كان الجزء الصحيح الوحيد في هذا البيان هو عدد سكان تركيا).
وكانت هناك إشارات منتظمة تجذب الانتباه في الفترة الانتقالية أيضاً. فقد اتُهم جونسون بالعنصرية، بعد أن وصف عمود كتبه لصحيفة «ديلي تليغراف» العام الماضي النساء المسلمات اللائي يرتدين النقاب بأنهن «يشبهن لصوص البنوك» و«صناديق الرسائل». وفي الأسابيع التي تلت ذلك، أفادت تقارير بصياح نساء مسلمات في الشوارع نتيجة لتلك الإهانات.
وفي أيامه الأولى كرئيس للوزراء، بدا أن مشاعر جونسون القديمة حول هذه القضية بدأت في التلاشي. فقد ألغى أعداد الهجرة المسموحة التي استهدفتها سلفه تريزا ماي، وقال لمواطني الاتحاد الأوروبي، البالغ عددهم 3.2 مليون في بريطانيا، إنهم «سيكونون على يقين تام» من أن حقوقهم مصانة، ودعا إلى العفو عن المهاجرين غير الشرعيين الذين اضطروا للعيش في اقتصاد الظل لسنوات.
لكن كلما اقتربنا من احتمال إجراء انتخابات عامة جديدة، كان جونسون أقل ميلاً للدفاع عن تلك الآراء، حيث يقول جونسون الآن إنه يفضل نظاماً للهجرة «يعتمد على النقاط، على غرار أستراليا»، وهو أمر ظل نايجل فاراج يدفع به لسنوات، لكنه لم يحدد بعد خطته. وهناك حديث عن رفع حد الراتب الموصى به، الذي يبلغ 30 ألف جنيه إسترليني (36 ألف دولار) سنوياً، ليصبح مؤهلاً بدرجة كافية لاستحقاق التأشيرة. وليس من الواضح ما إذا كانت خطة العفو هذه ستستمر أم لا.
وهناك أيضاً تشويش بين سكان الاتحاد الأوروبي، بعد ورود تقارير تفيد بأن وزير الداخلية بريتي باتيل يريد أن ينهي بشكل مفاجئ حرية الحركة لمواطني الاتحاد الأوروبي بعد خروجهم من الاتفاق. فقد اتجه المواطنون المحبطون في الاتحاد الأوروبي في بريطانيا إلى موقع «تويتر» للشكوى من الخلط بين الإرشادات، ومعالجة الأخطاء في خطة التسوية الأوروبية في بريطانيا. وقد وصفت «هيئة معايير الإعلان» الإعلانات التي أذاعتها وزارة الداخلية حول المخطط بـ«المضللة».
وبريطانيا ليست في وضع يسمح لها بتنفيذ هذا النوع من الضوابط الحدودية التي يتطلبها التغيير المفاجئ. وحتى الضوابط المشددة للهجرة التي أيدتها ماي قد تكون لها عواقبها الوخيمة، ليس فقط لمواطني الاتحاد الأوروبي، ولكن لقطاعات عدة في اقتصاد المملكة المتحدة، كالرعاية الصحية والمستشفيات والخدمات الأخرى التي تعتمد عليها. وحسب مؤسسة «آي بي بي آر» البحثية، فإن ثلاثة أرباع عمال الاتحاد الأوروبي في المملكة المتحدة سيكونون غير مؤهلين، بموجب الإرشادات الصارمة للعمال ذوي المهارات المنخفضة التي اقترحتها اللجنة الاستشارية للهجرة العام الماضي.
ومع ذلك، فقد تاهت الحقائق منذ وقت طويل في ظل النقاش الدائر حول الهجرة، لأن القضية تثير الأعصاب بخصوص عدة عوامل، منها الخوف من فقدان الوظيفة، والخوف من الازدحام على الخدمات العامة، والخوف من التسطيح الثقافي، والخوف من الجريمة، والخوف من ارتفاع أسعار وإيجارات الشقق. وقد سارت القصة نفسها بدرجات متفاوتة بالطبع في بلدان غربية أخرى، لكن هذه الدولة التي تقع فوق جزيرة تعد مناسبة أكثر من غيرها للروايات المعادية للمهاجرين.
جونسون يفهم أن الأمر أكثر تعقيداً من حكايات الخوف من عدم الأمن في وجود المهاجرين. صحيح أن استيعاب القادمين الجدد أمر بالغ الأهمية، ولكنه يعتمد أيضاً على الخدمات العامة التي توفرها بريطانيا ونظامها التعليمي وفرصها الأوسع. ومع ذلك، احتاجت بريطانيا واستفادت دائماً من المهاجرين. فقد خلصت دراسات لا حصر لها إلى أن المهاجرين من الاتحاد الأوروبي يسهمون في المال العام أكثر من المواطن البالغ المولود في بريطانيا. إن المهاجرين ضرورة لبناء «بريطانيا عالمية»، بعد خروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي، ولا شيء من ذلك سيشكل مفاجأة لجونسون.
السؤال هو: هل سيدير جونسون ظهره لأمر يعرف أنه حقيقي كما فعل عام 2016؟
* بالاتفاق مع «بلومبرغ»