الذين يظنون أن العراق محتل من قبل إيران ووجدوا في العنوان ما يثير الشجون قد بالغوا كثيرا في تصورهم لعمق الهيمنة الإيرانية، ومع أن لإيران نفوذا قويا إلا أنه لا يشكل تهديدا جديا على مستقبل العراق، فدولة كالعراق لا يمكن أن تبتلع ولا أن تكون مسيّرة على المدى الاستراتيجي. وهذا ينطبق بقوة أكثر على النفوذ الأميركي، الذي فقد تأثيره الفعال، لأسباب ترتبط بالعراق أولا وبالمتغيرات الحاسمة في الدور الخارجي الأميركي، حيث أحدثت الأزمة المالية انعطافا جديا في الأفكار الاستراتيجية، خصوصا في مجال استخدام القوات المسلحة.
تحرير العراق من فكر «داعش» واحتلاله العسكري للمدن ومن ذيوله السياسيين يتصدر قائمة الاهتمامات المفترضة من قبل الحكومة الجديدة، وهي قصة طويلة تتداخل فيها الوجوه والأدوار، فتحرير مدينة الموصل وحدها يتطلب جهودا وخططا استثنائية، وقبل ذلك، ضرورة التخلص من الدعوات المرتبطة بمشاريع تصب في الضد من وحدة العراق، فقسم من حملة الجنسية العراقية يتصرفون كأنهم جالسون على صفيح ساخن ضمن دولة اسمها العراق، والمشروع الإردوغاني التركي تحولت نظرته من كركوك التي كانت مميزة بثقل تركماني في فترة ما إلى الموصل، وهو ما ساهم بشكل من الأشكال في سقوط الموصل دون أدنى شك، وتداخلت الأسباب في تراكماتها من بغداد إلى أنقرة.
ويفترض تحرير العراق من هيمنة السياسيين وجشع استغلال المعطيات التي فرضت بعد 2003، وهذا يتطلب وقتا يمكن تقليصه من خلال نشر وتعميق الشعور الوحدوي والثقافي الشبابي، وهو شعور بدأ يتنامى وينتشر بشكل واضح ومقلق للسياسيين، ولم يعد الشباب تبعا للسياسيين التي تنتفخ ثرواتهم من أموال الشعب، بل على العكس باتت عيون الناس ثاقبة وتزايدت فرص الضغط الشعبي، حتى لو حدثت اختلالات في مرحلة تشكيل الحكومة نتيجة فرض المعادلات السابقة، فأبواب التغيير لم يعد ممكنا غلقها، وأصبحت الحكومة على المحك، ومن مصلحتها العمل على تلبية طموح الشباب في ضرب الفساد وإيجاد فرص لعمل الخريجين وغيرهم.
وبعد أن ثبتت ضحالة الفكر التفكيكي بكل أشكاله، أصبح من الضروري منع التشرذم الفكري المجتمعي الذي حاولوا من خلاله إشباع ذاكرة الجيل الجديد بمفاهيم المفاصلة المبنية على «المكونات»، التي كان على الهند لتطبيقها أن تملأ جدران قاعة البرلمان بلغات مئات القوميات والشرائح، وأن تتقسم إلى عشرات الدول وربما المئات. والغريب أن «الإسلامويين» هم من يشارك عن جهل أو بمحاولة استحواذ مبنية على تقدير موقف سيئ في فكرة المفاصلة، كأنهم أوصياء على من هم أحق منهم في فضاء الحرية، ففكرتهم في تحويل المناظر الجميلة إلى لوحة غربان تلاقي رفضا قويا رغم عسر الظروف التي أوجدها «الفساد العظيم»، فهذا النمط من المخلوقات يجيد فن التبرير المستند إلى تحريف قواعد الديانات الحية.
شيء جميل أن يلتقي الأضداد السياسيون - بعد أن صدعوا رؤوس الناس - في دائرة واحدة، ففي تلاقيهم أثبتوا أن صراعاتهم وخصوماتهم لم تكن ذات صلة بمصالح «المكونات»، فلم يتركوا سبيلا إلا طرقوه من أجل مصالحهم الشخصية ومنافعهم التي فاقت التصورات. وهذه الرؤية ستساعد الشباب على فهم المواقف على حقيقتها فيسقط المشروع التآمري التفكيكي بالبراهين، التي يكون تأثيرها أكثر عمقا على المدى البعيد. وهذا يتطلب النظر إلى فكر «المكونات» من نقطة أعلى، فالعدل يحققه القانون والتعاون وتشجيع الحراك السياسي بدل النعرات المتخلفة.
وبعد أن تشكلت الحكومة، فليس ضروريا ولا منطقيا أن يجري الالتزام بالنقاط المخلة بمتطلبات السيادة الوطنية، فالهواجس السيادية أهم من الالتزام بوريقات فرضتها ظروف شاذة، وينبغي فرض إرادة الأمة على كل الضوابط والسياقات ضمن الإطار العام لمتطلبات العدل والإنصاف، ومن لا يعجبه ذلك فالقانون كفيل في عدم السماح بالخروج عن الإطار الوطني والسلم المجتمعي.
المصالحة الوطنية أصبحت معلقة مملة، فالمطلوب هو العدل والإنصاف، وإن الدول التي تتكرر فيها قوانين العفو غير المقيد لن تنعم بالأمن والسلام، لأن كثرة قرارات العفو تشجع المفسدين والمجرمين، والصراع مع «داعش» يقع حسمه ضمن قدرات العراقيين بحدود معقولة مضافة من التحالف الدولي، غير أن هذا لا يجوز أن يكون على أساس تقوية طرف فرعي على المركز، فتوجه كهذا يفوق خطر «الدواعش» على المدى البعيد، لأنه يضعف البنية الوطنية للدولة.
8:18 دقيقه
TT
ما السبيل إلى تحرير العراق؟
المزيد من مقالات الرأي
لم تشترك بعد
انشئ حساباً خاصاً بك لتحصل على أخبار مخصصة لك ولتتمتع بخاصية حفظ المقالات وتتلقى نشراتنا البريدية المتنوعة