هل هول الواقع العربي أكبر من كلمات الشعراء؟

ندوة أصيلة حول «الشعر العربي في مشهد ثقافي متحول»

جانب من الندوة
جانب من الندوة
TT

هل هول الواقع العربي أكبر من كلمات الشعراء؟

جانب من الندوة
جانب من الندوة

يرى محمد الأشعري، الكاتب والشاعر ووزير الثقافة المغربي الأسبق، إن تجربة الشعر العربي الحديث ارتبطت منذ انبثاقها بالتطلع الجماعي إلى التحرر كما تجسّد في مقاومة الاستعمار ومواجهة الاستبداد ومناهضة التقليدية والانطواء والتعصب. غير أن الشاعر العربي، يضيف الأشعري، أصبح اليوم يقف عاجزاً أمام واقع «القتل اليومي والمهانات التي يلحقها المستبدّون بشعوبهم... وتقويض فكرة التقدم التي انبنت عليها تجربة النهضة العربية»، معتبراً أن هول هذا الواقع «أكبر من كلماتنا، وأقسى مما تتحمله اللغة».
ويقول الأشعري الذي كان يتحدث في الجلسة الافتتاحية لندوة «الشعر العربي في مشهد ثقافي متحول» المنظمة في إطار فعاليات «موسم أصيلة الثقافي» الدولي الـ41، أنه «لا شعر إلا في ارتباط وجودي مع الحرية»، مضيفاً أن الأمر لا يتعلق «بربط ساذج بين الشعر وتحقيق الحرية، بل بجعل الشعر في حد ذاته مجالاً لبناء حرياتنا الجماعية والفكرية واللغوية، المضمونية والشكلية، وجعل ذلك كله ليس فقط أسلوب كتابة، بل أسلوب حياة».
وقال الأشعري إن آلام العقود الأخيرة «التي بثرت من أجسادنا وأرواحنا أمكنة وقناعات وأحلام»، تجعل الشاعر يشعر بالشك ما إن يقف أمام صفحة بيضاء. وأضاف: «إننا نعتذر لقرائنا الموجودين أو المفقودين الذين يراودهم الشك في جدوى ما نكتب، فنحن أيضاً في شك من أمرنا؛ فما أبعدنا عن مراحل اليقين التي كان فيها روادنا واثقين تماماً من المعجزة، وهم يرون ما تحفره كلماتهم من أخاديد في الصخر»، مشيراً إلى أن هذا اليقين الذي بني «بصبر وأناة وتحمُّل بالغين، ندرك حدوده، ولكننا نثق في قدرته على خلق التعبير الملائم عن آلامنا المتجددة، وعلى خلق اللغة التي ستنهض من أنقاضها».
ومع ذلك، يضيف الأشعري: «لم يدخر الشعر العربي جهداً في بناء وحدته الشعرية على مجهود فكري وجمال يستند على تعدد الرؤى والتجارب والانفتاح على حقول إبداعية أخرى وعلى شعريات مختلفة»، مشيراً إلى أن «القصيدة العربية الحديثة استدعت أصداء لغات أخرى، وجماليات مرتبطة بالتشكيل والسينما والنحت والمسرح، وعددت الأصوات وزاوجت بين الغنائي والنثري، والتقطت العبثي والمفارق والساخر وتوسّلت بلغة اليومي، واستعادت الطفولة والحلم، وحفرت في تربة المكان والذاكرة»، و«كانت هذه التجربة ولا تزال مختبراً حقيقيا لما يستطيعه الخيال واللغة»، رغم محاولات السياسات المتعلقة بالتعليم كسر أولوية الخيال وجوهرية اللغة في حياة الناس.
وعلى عكس ذلك، يرى الناقد المصري صلاح فضل أن الشعر لم ينحسر. وقال: «الشعر على عكس ما يبدو في الوهلة الأولى، وفي الظاهر، لم ينحسر عن حياتنا. أزعم أنه انبثق في مواطن وأقطار كان أوشك أن يندثر فيها»، مشيراً إلى تجربة «أمير الشعراء» التي بدأت منذ 12 عاماً في أبوظبي، التي وصفها بكونها «ظاهرة مدهشة ومنعشة وسارّة»، كما أشار إلى العودة القوية للشعر العربي في المنطقة المغاربية التي تتجه إلى التحرر من سطوة الفرنكوفونية. وقال: «في المنطقة المغاربية أجد الآن مجموعة من الشباب والشابات تتوهج في أعماقهم وتنطق ألسنتهم بقصائد مدهشة لم يسبق أن كتب أمثالها أسلافهم من شعراء هذه المنطقة. على عكس ما نتصور من أن الشعر غائب عن هذه المنطقة، فالشعر يتدفق لدى الشباب، ونحن نشاهد كل موسم عشرات الشباب يفاجئوننا بقصائد بالغة العمق، وكأنه قد فكت لديهم عقدة الفرنكوفونية، وارتبط وجدانهم بالينابيع العذبة الدافقة من التراث الشعري القديم الذي يربطهم بأصلاب لغتهم».
من جانبه، تساءل وزير الثقافة الأردني الأسبق صلاح جرار عن «الدور الذي يضطلع به الشعر في الأمم عندما تتعرض لأزمات»، مشيراً إلى أن هذا السؤال ينطلق من فرضية أن «الشعر يتوفر على قدرة خارقة على التأثير، سواء كان تحريكاً أو تحريضاً، تنبيهاً أو توجيهاً، أو دعوة إلى وحدة الأمة وتجاوز خلافاتها ورصّ صفوفها»، كما يفترض في الشعر أنه «لا يعبر عن ضمير الشاعر وحده، بل عن ضمير الأمة التي ينتمي إليها»، مضيفاً أن «الشعر الجيد متى استوطن ذاكرة الإنسان فإن تأثيره يدوم في الوعي والوجدان بل يزداد هذا التأثير كلما طال مكوثه في الذاكرة، لأن الشعر المقيم في الذاكرة يتفاعل مع كل ما يطرأ من أحداث ويجدّ من أزمات».
ويعتقد المحاضر أن «الشعر خلال النصف الأول من القرن الماضي أكثر انخراطاً وانشغالاً بالهمّ الوطني والقومي، وكانت الأشعار تعجّ بالحماسة والثورة والكبرياء، وكانت أكثر تفاؤلاً وإيماناً بالنصر والتغلُّب على المستعمرين. لكن بعد الإخفاقات المتتالية للأمة، أخذ هذا الدور في التراجع، فانسحب العديد من الشعراء من ساحة المواجهة مقتفين بذلك أثر الجيوش المنسحبة أيضاً. وحل محل التفاؤل والأمل ما نراه اليوم من شيوع مشاعر اليأس والإحباط في القصيدة العربية بكل أشكالها، وكثرة الشكوى من الواقع العربي».
غير أنّ الشاعر اللبناني شوقي بزيع لا يشاطر هذا الرأي تماماً. فبالنسبة له لا يمكن للشعر أن يُكتب وفق التوجيهات والتعليمات. وقال: «ليس على الشاعر أن يُعطى أوامر من خارج نفسه، لأنه لا يكتب مستحضراً وعيه الشخصي، فكيف بالوعي الآيديولوجي للقوميات وللوظائف السياسية وللآيديولوجيات الأخرى؟!». وأشار إلى أن الشاعر «يجب أن يصغي إلى أعماقه فقط حين يكتب... أن يكتب في العتمة الكاملة، حيث تُطفأ جميع الأنوار ولا يُضاء إلا ذلك العالم الموصل بينه وبين اللغة، وبين حرائقه الداخلية». فالشاعر، وفقاً لبزيع، يكتب بجميع أعصابه وبكل طاقته، لكنه يستحضر فيما يكتب، تلقائياً ودون وعي، كل تلك النيران المقبلة من الأسلاف ومن السلالات». وشبّه بزيع الشاعر بشخص يلقي حصاة في الماء، فتحدث دوائر، قد تصل بعضها بالجماعة أو بالقومية أو بالعالم، ولكنها لا يجب لحضورها أن يكون على شكل أوامر يعطيها الوعي للكتابة، لأن الوعي يفسد الكتابة تماماً، كما يفسد الضوء الحب. وقال: «في العتمة الكاملة يجب أن نكتب».
من جانبه، تساءل الشاعر البحريني كريم راضي عن موقع الشعر في المشهد الثقافي الراهن، وعن مصير الملحمة وحلم الخلود. وقال: «ليث الملاحم تموت وتتفتت. هذا أفضل للشعر لكي يستدير. فقد كانت الاستدارة دائماً مجد الشعر وفضيلته»، مشيراً إلى أن «الشاعر يدير ظهره للأبطال والخالدين ليبحث عن الفانين، وعن مجد الفناء الذي ليس كمثله شيء».
وأضاف راضي قائلاً: «ما يفعل الشهداء بالخلود؟ أرجوك أيها الشعر لا تصفهم بذلك. الخلود للوحوش والطغاة والمملّين. صفهم بأنهم مرّوا ورحلوا بلا جدوى، صفهم بأنهم لم يكونوا يسعون إلى شيء... لا تصف لحظة استشهادهم، ولا مجد موتهم. صف ما تركوه خلفهم. دراجاتهم المعطوبة، عرباتهم التي لم يغسلها أحد. أطفالهم الذين يمدون يدهم يمسكون الفراغ في طريق المدرسة. وهذا أليق بالشعر».
أما الشاعر العراقي حميد سعيد، فاختار تركيز مداخلته حول موضوع متغيرات القصيدة. وقال: «يا للقصيدة من عالم شاسع، يقترن فيه الغموض بالجمال، والفكر بجديد الأسئلة. وإذ وصل العلم في اقترانه بالتجربة الإنسانية إلى نهايات كثيرة من فضاءات الحياة، وانتهى إلى معرفة أدق أسرارها، فإن القصيدة ما زالت، وهي تواصل تجلياتها الإبداعية، تتكتم على كثير من أسرارها وخصوصياتها».
ويرى سعيد «مواصلة الحوار مع القصيدة هو حوار مع كائن حي، حيث تكون القصيدة أشبه بامرأة مزهوة بمفاتنها، لكن هذه المفاتن ستكون طارئة وباردة إن لم تتوحد بشمائل متميزة. وبهذا الحوار يكون اكتشاف شمائل القصيدة ومن تم اقترانها بمفاتنها. وبهذا الاقتران تكون القصيدة الاستثنائية».
وفي تقديمه لندوة الشعر، التي شارك فيها على مدى يومين نحو 30 شاعراً وباحثاً وناقداً، وتتخللها منافسات مع الجمهور وقراءات شعرية، أشار محمد بن عيسى، أمين عام «مؤسسة منتدى أصيلة»، ووزير ثقافة ووزير خارجية سابق، إلى أن الشعر كان حاضراً ضمن فعاليات «موسم أصيلة» منذ انطلاقته قبل 41 سنة. وقال: «في هذا المكان وفي قصر الثقافة كان ينشد الشعر عبد الوهاب البياتي وأدونيس وأحمد عبد المعطي حجازي وبلند الحيدري وكثيرون، وعشنا أيضا هنا مزاحمات الشعر والشعراء، حينما يأتي شاعر، ويرفض آخر أن يحضر».
وذكر بن عيسى كيف أن بلند الحيدري كان دائماً يوصيه بالاعتناء بالشعراء الشباب، وكيف أنه بعد وفاته، بسبب أزمة قلبية ألمت به يومين قبل موعد مجيئه إلى أصيلة، قرر دون استشارة أحد إحداث جائزة بلند الحيدري للشعراء الشباب، التي تُمنح كل عام، مع استمرار «موسم أصيلة» بالاحتفاء سنوياً بالشعر مع خلال جلسات القراءات الشعرية التي تتخلل فعالياته.
وحول فكرة تنظيم لقاء شعري بدأ مع هذه الدورة، قال بن عيسى: «ربما آن الأوان لنتباحث بجانب القراءات الشعرية عن مسار الشعر العربي في خضم التحولات التي يعرفها العالم ليس فقط من الجانب التكنولوجي، ولكن أيضاً من جانب توالي الأجيال. نحن مقبلون على جيل جديد يتعامل مع المعرفة بآليات مختلفة عما تعودنا عليه، وبرؤى وتجارب مختلفة».
وأشار إلى أن «موسم أصيلة» بدأ منذ خمس سنوات تنظيم مشاغل الكتابة للأطفال، مستهدفاً تلامذة الثانويات، وذلك في سياق انشغاله بكيفية تحفيز اهتمام الأطفال والشباب بهذا الينبوع الإبداعي، وكيف يمكن ربطه مع الإبداعات الأخرى.



«كيركيغارد»... والحب المستحيل

ريجين أولسين
ريجين أولسين
TT

«كيركيغارد»... والحب المستحيل

ريجين أولسين
ريجين أولسين

كان أحدهم قد أطلق العبارة التالية: كيركيغارد فيلسوف كبير على بلد صغير الحجم. بمعنى أنه أكبر من البلد الذي أنجبه. وبالفعل، فإن شهرته أكبر من الدنمارك، التي لا يتجاوز عدد سكانها 5 ملايين نسمة، وبالطبع أكبر من اللغة الدنماركية المحدودة الانتشار جداً قياساً إلى لغات كبرى كالفرنسية والإنجليزية والألمانية والإسبانية، ناهيك بالعربية. ولكن مؤلفاته أصبحت مترجمة إلى شتى لغات العالم. وبالتالي، لم تعد محصورة داخل جدران لغته الأصلية الصغيرة. لقد أصبحت ملكاً للعالم أجمع. هنا تكمن عظمة الترجمة وفائدتها. لا حضارة عظيمة من دون ترجمة عظيمة. والحضارة العربية التنويرية قادمة لا ريب، على أكتاف الترجمة والإبداع الذاتي في آنٍ معاً.

سورين كيركيغارد (1813 - 1855) هو مؤسس الفلسفة الوجودية المعاصرة، قبل هيدغر وسارتر بزمن طويل. إنه الممثل الأكبر للتيار الوجودي المسيحي المؤمن، لا المادي الملحد. كان كيركيغارد أحد كبار فلاسفة الدين في المسيحية، إضافة إلى برغسون وبول ريكور، مثلما أن ابن رشد وطه حسين ومحمد أركون هم من كبار فلاسفة الدين في الإسلام.

سورين كيركيغارد

لكن ليس عن هذا سأتحدث الآن، وإنما عن قصة حب كبيرة، وربما أكبر قصة حبّ ظهرت في الغرب، ولكن لا أحد يتحدث عنها أو يسمع بها في العالم العربي. سوف أتحدث عن قصة كيركيغارد مع الآنسة ريجين أولسين. كيف حصلت الأمور؟ كيف اشتعلت شرارة الحب، تلك الشرارة الخالدة التي تخترق العصور والأزمان وتنعش الحضارات؟ بكل بساطة، كان مدعواً إلى حفلة اجتماعية عند أحد الأصدقاء، وصادف أنها كانت مدعوة أيضاً. كانت صغيرة بريئة في الخامسة عشرة فقط، وهو في الخامسة والعشرين. فوقع في حبها على الفور من أول نظرة، وبالضربة القاضية. إنه الحب الصاعق الماحق الذي لا يسمح لك بأن تتنفس. ويبدو أنه كان شعوراً متبادلاً. وبعد 3 سنوات من اللقاءات والمراسلات المتبادلة، طلب يدها رسمياً فوافقت العائلة.

ولكنه صبيحة اليوم التالي استفاق على أمر عظيم. استفاق، مشوشاً مبلبلاً مرعوباً. راح ينتف شعر رأسه ويقول: يا إلهي، ماذا فعلت بنفسي؟ ماذا فعلت؟ لقد شعر بأنه ارتكب خطيئة لا تغتفر. فهو لم يخلق للزواج والإنجاب وتأسيس عائلة ومسؤوليات. إنه مشغول بأشياء أخرى، وينخر فيه قلق وجودي رهيب يكاد يكتسحه من الداخل اكتساحاً... فكيف يمكن له أن يرتكب حماقة كهذه؟ هذه جريمة بحقّ الأطفال الذين سوف يولدون وبحقّها هي أيضاً. ولذلك، فسخ الخطوبة قائلاً لها: أرجوك، إني عاجز عن القيام بواجبات الزوجية. أرجوك اعذريني.

ثم أردف قائلاً بينه وبين نفسه: لا يحق لي وأنا في مثل هذه الحالة أن أخرب حياة خطيبتي المفعمة بحب الحياة والأمل والمحبة، التي لا تعاني من أي مشكلة شخصية أو عقدة نفسية أو تساؤلات وجودية حارقة. وإنما هي إنسانة طبيعية كبقية البشر. أما أنا فإنسان مريض في العمق، ومرضي من النوع المستفحل العضال الذي لا علاج له ولا شفاء منه. وبالتالي، فواجب الشرف والأمانة يقتضي مني أن أدوس على قلبي وأنفصل عنها وكأني أنفصل عن روحي.

لكن عندما سمع بأنها تزوجت من شخص آخر جنّ جنونه وتقطعت نياط قلبه وهاجت عليه الذكريات. بل هرب من الدنمارك كلها لكيلا يسمع بالتفاصيل والتحضيرات وليلة العرس. هذا أكبر من طاقته على التحمل. وأصبح كالمجنون الهائم على وجهه في البراري والقفار. كيف يمكن أن يتخيلها مع رجل آخر؟ هل انطبقت السماء على الأرض؟ مجنون ليلى ما تعذب مثلنا.

الشيء المؤثر في هذه القصة هو أن خطيبته التي عاشت بعده 50 سنة تقريباً طلبت أن تدفن إلى جواره، لا إلى جوار زوجها الشرعي! فاجأ الخبر كثيرين. وكانت بذلك تريد أن تقول ما معناه: إذا كان القدر قد فرقني عنه في هذه الحياة الدنيا، فإني سألتحق به حتماً في الحياة الأخرى، حياة الأبدية والخلود. وكانت تعتبر نفسها «زوجته» برغم كل ما حصل. وبالفعل، عندما كان الناس يتذكرونها كانوا يقولون: خطيبة كيركيغارد، لا زوجة فريدريك شليجيل. وقالت: إذا لم يكن زوجي هنا على هذه الأرض، فسوف يكون زوجي هناك في أعالي السماء. موعدنا: جنة الخلد! هل هناك حب أقوى من هذا الحب؟ حب أقوى من الموت، حب فيما وراء القبر، فيما وراء العمر... الحب والإيمان. أين هو انتصارك يا موت؟

قصة حب تجمع بين كيركيغارد، مؤسس الفلسفة الوجودية، وفتاة شابة جميلة تصغره بعشر سنوات، لكن الفلسفة تقف حجر عثرة بينهما، فينفصل عنها وتظل صورتها تطارده طيلة حياته

اللقاء الأخير

كيف يمكن أن نفهم موقف كيركيغارد من حبيبته إن لم نقل معبودته ريجين أولسين؟ للوهلة الأولى يبدو أنه لا يوجد أي تفسير منطقي له. فقد قطع معها في أوج العلاقة الغرامية، دون أي سبب واضح أو مقنع. ويبدو أنها حاولت أن تراه لآخر مرة قبيل سفرها مع زوجها إلى بلاد بعيدة. أن تراه في الشارع كما لو عن طريق الصدفة. وعندما اصطدمت به، قالت له: «ليباركك الله، وليكن كل شيء كما ترغب». وهذا يعني أنها استسلمت للأمر الواقع نهائياً، وأنه لا عودة بعد اليوم إلى ما كان. تراجع كيركيغارد خطوة إلى الوراء عندما رآها حتى لكأنه جفل. ثم حياها دون أن ينبس بكلمة واحدة. لم يستطع أن يرد. اختنق الكلام في صدره. لكأنه يقول بينه وبين نفسه: هل يحق لمن يقف على الخطوط الأمامية لجبهة الفكر، لجبهة النار المشتعلة، أن يتزوج؟ هل يحق لمن يشعر بأن حياته مهددة أن ينجب الأطفال؟ أطفاله هم مؤلفاته فقط. هل يحق لمن يصارع كوابيس الظلام أن يؤسس حياة عائلية طبيعية؟ ما انفك كيركيغارد يحاول تبرير موقفه، بعد أن شعر بفداحة ما فعل مع ريجين. لقد اعتقد أنه انفصل عنها، وانتهى الأمر، فإذا بها تلاحقه إلى أبد الآبدين. ما انفك يلوم نفسه ويتحسر ويتعذب. لكأنه عرف أن ما فعله جريمة لا تغتفر. نعم، لقد ارتكب جريمة قتل لحب بريء، حب فتاة غضة في أول الشباب. من يستطيع أن يقتل العاطفة في أولها، في بداية انطلاقتها، في عنفوانها؟ طيلة حياته كلها لم يقم كيركيغارد من تلك الضربة: ضربة الخيانة والغدر. وربما لم يصبح كاتباً وفيلسوفاً شهيراً إلا من أجل تبريرها. لقد لاحقه الإحساس القاتل بالخطيئة والذنب حتى آخر لحظة من حياته. إذا لم نأخذ هذه النقطة بعين الاعتبار فإننا لن نفهم شيئاً من فلسفة كيركيغارد. لقد أصبحت قصته إحدى أشهر قصص الحب على مدار التاريخ، بالإضافة إلى قصة دانتي وبياتريس، وروميو وجولييت، وأبيلار وهيلويز. ويمكن أن نضيف: مجنون ليلي، وجميل بثينة، وكثير عزة، وعروة وعفراء، وذا الرمة ومي... إلخ. العرب هم الذين دشنوا هذا الحب العذري السماوي الملائكي قبل دانتي وشكسبير بزمن طويل. ولماذا تنسون عنتر وعبلة؟ بأي حق؟

ولقد ذكرتك والرماح نواهلٌ

مني وبيض الهند تقطر من دمي

فوددت تقبيل السيوف لأنها

لمعت كبارق ثغرك المتبسم

بعد أن تجاوز فيلسوف الدنمارك تلك التجربة العاصفة، شعر وكأنه ولد من جديد، أصبح إنساناً جديداً. لقد انزاح عن كاهله عبء ثقيل: لا عائلة ولا أطفال ولا زواج بعد اليوم، وإنما معارك فكرية فقط. لقد طهره حب ريجين أولسين من الداخل. كشف له عن أعماقه الدفينة، وأوضح له هويته ومشروعه في الحياة. الحب الذي يفشل يحرقك من الداخل حرقاً ويطهرك تطهيراً. بهذا المعنى، فالحب الفاشل أفضل من الحب الناجح بألف مرة. اسألوا أكبر عاشق فاشل في العالم العربي. بعدها أصبح كيركيغارد ذلك الفيلسوف والكاتب الكبير الذي نعرفه. بالمعنى الأدبي للكلمة، وليس مفكراً فيلسوفاً فقط، بالمعنى النثري العويص الجاف. من ثم هناك تشابه كبير بينه وبين نيتشه مع الفارق، الأول مؤمن، والثاني ملحد. وأخيراً، لم ينفك كيركيغارد يحلل أعماقه النفسية على ضوء ذلك الحب الخالد الذي جمعه يوماً ما بفتاة في عزّ الشباب، تدعى ريجين أولسين. عبقريته تفتحت على أنقاض ذلك الحب الحارق أو المحروق. كان ينبغي أن تحصل الكارثة لكي يستشعر ذاته، ينجلي الأفق، يعرف من هو بالضبط. من كثرة ما أحبها تركها. لقد قطع معها لكي تظل - وهي العزيزة الغائبة - أشد حضوراً من كل حضور!