إدغار موران... نقد {البربرية الرأسمالية} في الغرب

نشر مذكراته الضخمة على مشارف عامه المائة

إدغار موران
إدغار موران
TT

إدغار موران... نقد {البربرية الرأسمالية} في الغرب

إدغار موران
إدغار موران

بداية سوف أقول إن إدغار موران يمثل ظاهرة فريدة من نوعها. فهذا الرجل الذي اخترق القرن العشرين كله منذ ولادته عام 1921 لا يزال حياً يرزق حتى الآن. والشيء المدهش الذي يدعو للإعجاب حقاً هو أنه وصل إلى هذا العمر المتقدم وهو لا يزال في كامل ملكاته العقلية والنقلية. بل إنه يجوهر أكثر فأكثر إلى درجة أنه أصبح حكيم فرنسا والعالم كله في هذه اللحظات بالذات.
بالأمس فقط تحدث عن مشكلة هذا الفيروس المجرم الذي يرعب العالم بأسره، والذي لا أتجرأ على ذكر اسمه مجرد ذكر خوفاً منه وذعراً. وقال إن العالم بعده لن يكون كما كان قبله أو هكذا يأمل ويرجو. ودعا الغرب الرأسمالي المتغطرس إلى تغيير عاداته وأساليب حياته المتطرفة والمسرفة الغارقة في الشهوات والملذات الضرورية وغير الضرورية وعبادة العجل الذهبي. بل ودعا إلى انتهاج سياسة حضارية مختلفة كلياً عما سبق في كتاب مشهور بعنوان: «من أجل سياسة حضارية». وقال إنه لا حضارة من دون نزعة إنسانية تضامنية تحترم كرامة الإنسان وتتعاطف معه وتقيم العلاقات الأخوية بين جميع الأقوام والشعوب.
فنحن جميعاً نعيش على سطح هذا الكوكب الأرضي فإما أن نغرق معاً وإما أن ننجو معاً. وكارثة «كورونا» التي انقضت علينا فجأة أثبتت ذلك بكل وضوح. من أين جاءته كل هذه القوة والحيوية؟ العام المقبل سوف يصبح عمره مائة سنة بالتمام والكمال وهو لا يزال يكتب وينشر، بل ويحاضر في الجامعات والمؤتمرات. لا يزال يتحفنا بإضاءاته وأفكاره أمد الله في عمره. ونحن بأمس الحاجة إليها في الواقع.
سوف ألقي هنا نظرة سريعة على المذكرات الضخمة التي نشرها مؤخراً والتي تتجاوز الـ750 صفحة من القطع الكبير. وقد خلع عليها عنواناً شاعرياً جميلاً حقاً: الذكريات تأتي لملاقاتي... وقد اشتريتها من «مكتبة كليلة ودمنة» الواقعة في قلب العاصمة المغربية: الرباط العامرة. وفرحت بها كثيراً، بل وغطست فيها كلياً وأنا عائد في القطار إلى البيت في القنيطرة.

علاقته بأندريه بريتون
عندما قابل إدغار موران أندريه بريتون لأول مرة فوجئ بقوة شخصيته وجلالته الإمبراطورية. بدا له وكأنه يعتلي عرش السريالية كالملك المبجل. ولم يكن متوتراً غاضباً يوزع الشتائم يميناً وشمالاً كما كان يتوقع ويخشى. ومعلوم أن البيان الثاني للحركة السريالية كان ينضح بذلك. وكان مليئاً بالتهديد والوعد والوعيد. كان بريتون سابقاً يمارس سلطته بكل حزم ويهدد بفصل أي شخص يخرج عن المبادئ العامة للحركة التي غيرت وجه الآداب الفرنسية بل والعالمية بل والعربية. ولكن البركان الثائر هدأ بعد ذلك رويداً رويداً.
ويرى إدغار موران أن الحركة السريالية هي أهم حركة ثقافية ظهرت في القرن العشرين. فقد حررت الكتابة من كل أنواع القمع التي تحيط بها أو تضغط عليها وفتحت لها آفاق الإبداع على مصراعيها.
بل ووصل بها الأمر إلى حد ممارسة الكتابة الأتوماتيكية، أي العفوية الحرة المتحررة من رقابة الوعي الظاهري القمعي والتي تطلق العنان للوعي الباطني كلياً. عندما التقى إدغار موران به كان عمر أندريه بريتون 60 سنة وكان قد خاض كل التجارب الجنونية ووصل إلى مرحلة النضج والثقة الكاملة بالذات. وكان يقول هذه العبارة: لا يوجد أي حل أبداً خارج الحب.

كل شيء عابر في هذا العالم
ما عدا لحظة حب
وهذا يعني أنه كان قد تجاوز المراحل الأولى الانفجارية التي تشبه انفجار الزلازل والبراكين. وبدل اللعنات والشتائم انتصر مفهوم الحب بالمعنى الضيق والواسع على عالمه الفكري والأدبي. قبل أن يقابله راح إدغار موران يغطس كلياً في الأدبيات السريالية فقرأ البيان الأول والبيان الثاني للحركة وقرأ أيضاً أعداد مجلة «الثورة السريالية». ويعترف بأنها كانت غنية بالنصوص العبقرية. ثم يقول بأنه كان دائماً معجباً بشعار الحركة السريالية: ينبغي تغيير العالم! ينبغي تغيير الحياة! ويعترف أنه مدين لبريتون بالفكرة التالية التي طورها فيما بعد لحسابه الخاص: وهي أنه يوجد استقطاب ثنائي بين نثر الحياة - وشعر الحياة. بمعنى: هل تعيش الحياة نثرياً أم شعرياً؟ في الواقع أننا نعيشها في كلتا الحالتين، وبالتناوب... لا يمكننا أن نعيش الحياة كلها شعرياً وإلا لغرقنا في الهذيانات الخيالية والجنون وانقطعنا عن حركة الواقع كلياً. اللحظة الشعرية لا معنى لها إن لم تأتِ فجأة بعد لحظات نثرية طويلة، بل ورتيبة مملة. آه ما أجمل الحياة، ما أجمل شاعرية الحياة!

علاقته برولان بارت
لقد كانت علاقة ودية جميلة لا عدائية ولا صراعية على عكس الحال مع سارتر. يقول لنا إدغار موران ما فحواه: «كنا نلتقي كثيراً إبان الخمسينات من القرن الماضي. وفي أثناء الستينات راح ينخرط أكثر فأكثر في الاتجاهات السيميولوجية أو السيميائية. ثم سيطرت عليه الموجة البنيوية كسواه من النقاد الفرنسيين. وبالغوا في هذا الاتجاه وأسرفوا. وراحوا يعاملون الأدب بطريقة تشريحية جافة قتلت روحه وجعلته يبدو عقيماً مملاً. لقد أرادوا تحويل الأدب إلى علم ناشف وصارم وهذا مستحيل لأن روح الأدب ذاتية شاعرية مضادة لمنهجية العلم الحسابية الدقيقة الباردة. ولذلك كانت فرحتي عظيمة عندما تخلى عن البنيوية في سنواته الأخيرة وعاد إلى روح الأدب الحقيقية وراح يكتب مؤلفات من نوع: (متعة النص)». كم أسعدتني هذه الكلمات من طرف إدغار موران! كم أنعشتني! فأنا أيضاً كنت أرى البنيوية هكذا بالضبط. وأتذكر أني عندما وصلت إلى باريس لدراسة النقد الأدبي في أواخر السبعينات فاجأتني هذه المدرسة التكنولوجية ببرودتها الصقيعية وأزعجتني إلى أقصى حد ممكن. وقد كتبت عن ذلك سابقاً وعبرت عن استيائي من الموجة البنيوية التي طغت بكل إمبريالية متعجرفة على الساحة الباريسية أولاً فالساحة العربية ثانياً. البنيوية ليست إلا تطويراً لنظرية عبد القاهر الجرجاني العبقرية عن مفهوم «النظم». ما عدا ذلك لا ينبغي الإسراف فيها ونسيان متعة النص. لا ينبغي القضاء على جماليات النص من خلال هذا الإسراف البنيوي المليء بالشكليات الفارغة والجداول الإحصائية. يضاف إلى ذلك أن المثقفين الفرنسيين آنذاك راحوا يطلعون علينا بصرعات وشعارات من نوع: موت الإنسان، موت المؤلف، إلى آخره. وفي الوقت ذاته كانوا حريصين أشد الحرص على توقيع نصوصهم ومؤلفاتهم بأسمائهم الشخصية. فلماذا لم يطبقوا نظرية موت المؤلف على أنفسهم؟ لماذا كانوا حريصين على وضع أسمائهم الشخصية بحروف ساطعة وفاقعة على كتبهم؟ ما هذا الهراء؟ لحسن الحظ فإن كل ذلك قد انحسر الآن عن الساحة الباريسية وانتهى. «فأما الزبد فيذهب جفاء وأما ما ينفع الناس فيمكث في الأرض».

إدغار موران والحضارة الغربية
كنا نعتقد أن العالم الشرقي هو وحده المريض ولكننا اكتشفنا أن الغرب هو أيضاً مريض وإن بشكل آخر مختلف كلياً. فنحن نعاني من التطرف والإكراه في الدين والغيبيات والطائفيات التي تمزقنا تمزيقاً وتجعل وحدتنا الوطنية حلماً بعيد المنال. وهو يعاني من التطرف المعاكس الغارق في الإباحيات والماديات والركض المسعور وراء الشهوات والخروج كلياً على المثل العليا والروحانيات. تطرف وتطرف مضاد. تعددت الأسباب والموت واحد! يقول لنا إدغار موران ما معناه: صحيح أن المجتمعات الغربية تجاوزت مرحلة الأصولية الدينية بعد المرور بالمرحلة التنويرية ولكنها ولدت أصولية جديدة غير السابقة. صحيح أنها تجاوزت الطائفية والمذهبية ولم تعد تذبح على الهوية. ولكنها ولدت بربرية جديدة يمكن أن ندعوها بالبربرية الرأسمالية الصقيعية، أي بربرية الحسابات الباردة، والربح والفائدة، والتقنيات التكنولوجية. قل لي كم تملك في البنك أقل لك من أنت. لم تعد هناك قيمة أخرى تتعالى على الماديات والحسابات والملكيات. الإنسان أصبح مختزلاً إلى رقم حساب في البنك. فإذا كان كبيراً كان من أعظم الناس حتى ولو كان شخصاً حقيراً تافهاً لا يساوي «قشرة بصلة» من الناحية الأخلاقية والإنسانية. وإذا كان حسابه البنكي صغيراً فلا قيمة له في مجتمعات الغرب حتى ولو كان من أشرف الناس! صحيح أن الحضارة الحديثة حققت لمجتمعات الغرب المتقدمة إنجازات ضخمة ما كان يحلم بها آباؤنا وأجدادنا مجرد حلم: كالرفاهية المادية، ورغد العيش، والطب المزدهر المتفوق، والمستشفيات الرائعة، والضمان الصحي، والضمان الاجتماعي، والحكم الديمقراطي، وحرية التفكير والتعبير حتى في مجال المقدسات والشؤون الدينية. إلخ. وكلها أشياء عظيمة لا تقدر بثمن ولا يعرف قيمتها إلا من هو محروم منها (انظر عالمنا العربي والإسلامي عموماً). ولكننا اكتشفنا أن هذه الرفاهية المادية لا تجلب السعادة بالضرورة. لقد دفعنا ثمنها باهظاً من إرهاق نفسي عام، وكرب، وإسراف في الشراب والمخدرات، وفراغ داخلي، أو خواء داخلي عميق. هذا هو الإنسان الغربي.
وتنتج عن ذلك كل أنواع اليأس والعدمية بل وحتى الانتحار. وبالتالي فعلى المستوى الشخصي لا يزال الغربيون أنانيين، بل وبرابرة وإن من نوع آخر. والسؤال المطروح هو التالي: لماذا نجد أن البربرية مستعدة للانبثاق في أعماق الإنسان الحضاري الذي تجاوز مرحلة الأصوليات والظلاميات والقرون الوسطى المعتمات؟ لماذا يحصل ذلك في أرقى المجتمعات الغربية وأكثرها تقدماً من الناحية العمرانية والصناعية والمادية والتكنولوجية والحضارية؟ وجواب الفيلسوف الكبير إذا كنت قد فهمته جيداً هو التالي: لأن رسالة التعاطف الكونية، وفكرة الأخوة الإنسانية، وكل القيم المثالية العليا، لم تستطع الانتصار على النواة الصلبة للبربرية الداخلية الرابضة في أعماق الإنسان. شكراً إدغار موران!



لودفيغ فتجنشتاين... ثورة هادئة على الفلسفة التقليدية

لودفيغ فتجنشتاين... ثورة هادئة على الفلسفة التقليدية
TT

لودفيغ فتجنشتاين... ثورة هادئة على الفلسفة التقليدية

لودفيغ فتجنشتاين... ثورة هادئة على الفلسفة التقليدية

ضمن سلسلة «الفلسفة» التي تصدر عن الهيئة المصرية العامة لقصور الثقافة، صدرت طبعة جديدة من كتاب «لودفيغ فتجنشتاين» للباحث المصري الراحل د. عزمي إسلام (1931- 1987) والذي يتناول التأثير اللافت لهذا المفكر النمساوي على الفلسفة المعاصرة.

وُلد فتجنشتاين في فيينا لأسرة صناعية ثرية ومثقفة، ثم اتجه إلى دراسة هندسة الطيران في مدينة «مانشستر» الإنجليزية، قبل أن يتخلى عن هذا الاتجاه ويتحول تماماً إلى المنطق والرياضيات في جامعة «كامبريدج» متأثراً بالمفكر البريطاني برتراند راسل الذي أشرف على دراسته للفلسفة. تطوع في جيش بلاده خلال الحرب العالمية الأولى وأمضى فترة معلماً في قرية نمساوية، ثم عاد لاحقاً إلى بريطانيا كأستاذ.

ويعد كتابه «رسالة فلسفية منطقية» أبرز مؤلفاته والذي نُشر لأول مرة عام 1921 ويذهب فيه إلى أن حدود اللغة هي حدود عالمنا، وما لا يمكن التعبير عنه بها يجب الصمت عنه، أما «تحقيقات فلسفية» فنشر بعد وفاته عام 1951 ويؤكد فيه على أن المعنى الحقيقي للكلمات يكمن في سياقها الاجتماعي وليس في مدلولها الاصطلاحي البحت، وهي الفكرة التي كان لها تأثير بالغ على مجلات أخرى كالأدب وعلم النفس.

ويشير المؤلف إلى أنه حصل على أطروحة الدكتوراه في فلسفة المفكر النمساوي لأن أفكاره كانت نقطة تحول حاسمة في تاريخ الفكر الفلسفي الحديث ويرجع ذلك إلى أهمية المنهج الذي تبناه، وهو المنهج التحليلي المنطقي، يتناول عبارات اللغة التي نصوغ فيها الأسئلة والمشكلات الفلسفية، حيث أثبت أن معظم هذه المشكلات ليست بمشكلات حقيقية وأنها لم تنتج إلا عن سوء استخدام اللغة.

أصبح إسهام فتجنشتاين أشبه ما يكون بالثورة الهادئة على الفلسفة التقليدية، وذلك لأنها غيرت من مفهومها ومجالها ووظيفتها فأصبحت الفلسفة لديه عبارة عن تحليل للغة وانتقل مجال البحث فيها من البحث في الأشياء في ذاتها كالوجود من حيث هو موجود أو العلة أو المطلق أو الجوهر أو اللامتناهي أو العدم إلى البحث في العبارات والألفاظ التي يقولها الفلاسفة وتحليلها لبيان ما له معنى منها وما لا معنى له، أو لبيان الصحيح منها والخاطئ بناء على اتفاقها أو اختلافها مع قواعد الاستخدام العادي المنطقي. ومن ثم تغيرت مهمة الفلسفة فأصبحت تنصب على تحليل مشكلات الفلسفة بدلاً من إقامة أنساق فكرية أو ميتافيزيقية جديدة. وتأثر بأفكاره بشدة عموم التيار الفكري الوضعي التحليلي.

واعتمد المؤلف في دراسته لفلسفة فتجنشتاين على مؤلفاته نفسها فضلاً عن بعض محاضراته بالجامعة، وكذلك محاضراته الخاصة التي نشرت في الكتابين «الأزرق» و«البني»، وأيضاً ملاحظاته عن المنطق والرياضيات كما رجع كذلك إلى ما نشر من رسائله إلى براترند راسل، ولم يكن ذلك بالمهمة اليسيرة نظراً لصعوبة كتاباته وتعقيداتها حتى إن كثيرين من تلامذته والباحثين عموماً كانوا يصفونه بـ«الفيلسوف المتعب للغاية».

ولد لودفيغ يوهان فتجنشتاين في السادس والعشرين من أبريل (نيسان) 1889 وكان والده مهندساً مرموقاً يشغل منصباً قيادياً في صناعة الحديد والصلب بالنمسا، كما كان لأم فتجنشتين أثر بالغ في خلق الميل الفني القوي في الأسرة، فقد كانت هي وزوجها موسيقيين من الدرجة الأولى حتى لقد أصبح المنزل في وقت ما مركزاً لحياة موسيقية جميلة وخاصة حينما كان يتردد عليهم صديق الأسرة الحميم يوهان برامز، الموسيقار العالمي الشهير.

اهتم فتجنشتاين أثناء دراسته في «كامبريدج» بالفلسفة وبأسس الرياضيات الحديثة اهتماماً كبيراً كما استفاد من النشاط الفكري الضخم الذي كان موجوداً في الجامعة قبيل الحرب العالمية الأولى، إذ كان راسل في أوج تفكيره الفلسفي والمنطقي وأخرج هو وألفريد نورث هوايتهد كتابهما «مبادئ الرياضيات» الذي يعد أحد العلامات المميزة في تاريخ المنطق.

على الرغم من اكتساب فتجنشتاين في إنجلترا للجنسية الإنجليزية، فإنه لم يكن معجباً بأساليب الإنجليز في الحياة كما كان يكره الجو الأكاديمي في كامبريدج في ذلك الوقت وحينما انتهت مدة زمالته في كلية ترينتي عام 1930 فكر في زيارة الاتحاد السوفياتي وزاره بالفعل مع أحد أصدقائه. وحين توفي في 29 أبريل 1951 في منزل الطبيب الذي كان يعالجه في بريطانيا، كانت آخر عبارة قالها لزوجة الطبيب: «قولي لهم إنني قد عشت حياة رائعة».

مال إلى البساطة في كل شيء وكان ذلك واضحاً من ملابسه ومن أثاث حجراته في الجامعة، فلم يكن يتمسك في ملابسه بالطريقة التقليدية مثل الأساتذة بل كان يرتدي دائماً بنطلوناً خفيفاً وقميصاً مفتوح الصدر بلا رباط عنق. وتكشف طريقته في إلقاء محاضراته عن أكثر من جانب من جوانب شخصيته، مثل البساطة والجدية والإخلاص للعمل والحب الشديد للحق وأحياناً الخشونة والجفاء والقسوة.

يؤكد فتجنشتاين أن المعنى الحقيقي للكلمات يكمن في سياقها الاجتماعي وليس في مدلولها الاصطلاحي البحت

لم تكن محاضراته تأخذ الطابع التقليدي، وإنما كانت أشبه باجتماعات برغم إصراره على تسميتها بالمحاضرات. كان يتكلم بلغة إنجليزية وبلهجة الرجل الإنجليزي المثقف وكان صوته رناناً عالي النبرة، وإن لم يكن منفراً، ولم تكن الكلمات تخرج من فمه متدفقة، بل بعد جهد كبير. وجهه كان سريع الحركة بطريقة ملحوظة كما كان معبراً جداً أثناء الحديث وكانت عيناه عميقتين، وغالباً ما كانتا تحملان شيئاً من القسوة في التعبير.

لم تكن مؤلفات فتجنشتاين كثيرة متعددة حتى إنه لم ينشر في حياته إلا كتاباً واحداً هو «رسالة منطقية فلسفية» ومقالاً له بعنوان «بعض ملاحظات على الصورة المنطقية» وبقية ما نشر عدا ذلك كان كله بعد وفاته.

وأهم ما يلاحظ في كتاباته خلوها تماماً من كل زخرفة أدبية أو رطانة في الأسلوب، فنجدها بسيطة قوية تعتمد على خصوبة الخيال، وهو ما تأثر بها كثير من الأدباء لاحقاً. استخدم التحليل كمنهج في الفلسفة لا كغاية، فهو لا يستهدف التحليل لمجرد تقسيم العالم إلى مجموعة من الوقائع أو رد اللغة إلى عدة قضايا أو رد المعنى إلى طريقة استخدامنا للألفاظ، إنما هو يستخدمه لكي يوصله إلى غاية أبعد من ذلك، وهي توضيح المشكلات الفلسفية التي إذا ما وضع معظمها تحت مجهر التحليل زال عنها كل غموض، واتضح أنها مشكلات زائفة أو أنها ليست بمشكلات أصلاً، على حد تعبيره.

وقد عبر عن هذا المعنى تعبيراً دقيقاً بقوله: «إن معظم القضايا والأسئلة التي كُتبت عن أمور فلسفية ليست كاذبة، بل هي خالية من المعنى، فلسنا نستطيع إذن أن نجيب عن أسئلة من هذا القبيل، وكل ما يسعنا هو أن نقرر عنها أنها خالية من المعنى، فمعظم الأسئلة والقضايا التي يقولها الفلاسفة إنما تنشأ عن حقيقة كوننا لا نفهم منطق لغتنا، فهي أسئلة من نوع السؤال الذي يبحث فيما إذا كان الخير هو نفسه الشيء الجميل على وجه التقريب، وإذن فلا عجب إذا عرفنا أن أعمق المشكلات ليست في حقيقتها مشكلات على الإطلاق».


«وجوه لا تغيب»... بورتريهات ترسم ملامح رموز ثقافية وفنية

«وجوه لا تغيب»... بورتريهات ترسم ملامح رموز ثقافية وفنية
TT

«وجوه لا تغيب»... بورتريهات ترسم ملامح رموز ثقافية وفنية

«وجوه لا تغيب»... بورتريهات ترسم ملامح رموز ثقافية وفنية

يقدم كتاب «وجوه لا تغيب: بورتريهات في محبة مبدعين» للناقد المصري الدكتور علاء الجابري حالة من القراءة التحليلية الممزوجة بالمعلومات وبالتأمل في حياة ومسيرة عدد من المبدعين والمفكرين والفنانين المؤثرين في مجالاتهم، مستخدماً الصورة القلمية في رسم ملامحهم الثقافية والشخصية، مازجاً المعلومة بالتأويل، ومطوفاً حول عدد من الرموز الثقافية منذ نهاية القرن التاسع عشر وحتى نهايات القرن العشرين، في مجالات معرفية مختلفة، كنوع من التحية لهم ولمنجزهم وتراثهم، الذي يمثل زاداً ثقافياً مهماً لمن جاء بعدهم من أجيال لاحقة، حتى لو اختلفوا مع تلك المنجزات.

الكتاب الصادر في القاهرة عن «دار المعارف» يبتعد فيه مؤلفه عن الكتابة الأكاديمية والنقدية التي يتوقعها القارئ من ناقد وأكاديمي، مفضلاً أن يقدم أسلافه عبر لغة رشيقة ومكثفة، لا تخلو من التقدير والإعجاب والتأثر بهؤلاء الرموز، لكن دون تقديس، يقول في المقدمة: «لم يتحمس الكتاب للشخصيات وإن لم ينكر محبتها، ولم يرتد ثوب الدفاع عنها، وإن اعترف بوجود مثالب فيها، وتعامل مع العيوب والنقائص بوصفها جزءاً من طبيعتها البشرية، وركز على أبعاد الإنجاز لديها، واعتبرها مكمن التميز وسط أمواج من العاديين»، فقد حاول الجابري رسم صور لشخصيات احتلت في قلوب الأجيال وعقولها مكانة رائقة، لاستكشاف مفتاح كل شخصية.

يقدم الكتاب بورتريهات عن 16 شخصية ثقافية شهيرة، هم: أمينة السعيد، مي زيادة، جمال الدين الأفغاني، رجاء النقاش، سهير القلماوي، عبد الحميد جودة السحار، عبد الرحمن شكري، لطيفة الزيات، أحمد أمين، يحيى حقي، محمد عبده، جورجي زيدان، أسامة أنور عكاشة، سعد الله ونوس، ميخائيل نعيمة، وعاطف الطيب.

يبدأ الكتاب ببورتريه عن الصحافية المصرية الرائدة، والناشطة النسوية، أمينة السعيد، التي كانت ضمن أول دفعة جامعية تضم فتيات، والتي ترأست دار الهلال العريقة، فكانت أول امرأة تترأس مؤسسة صحافية، وتولت رئاسة تحرير مجلة «حواء»، كما كانت وكيلة نقابة الصحافيين في سابقة لا تتكرر كثيراً. وبعيداً عن الصحافة، كتبت القصة القصيرة، وكانت في أعمالها الأدبية تركز على المثالب الاجتماعية ونقد المجتمع ومشكلاته ومناقشة عاداته المتجمدة وعيوبه الداخلية. ويركز المؤلف على علاقتها بأبيها الذي أصر على أن تكمل دراستها الجامعية ولا تتزوج قبل إنهائها، وكان هذا وعدها له، ثم علاقته بزوجها بعد ذلك، ويرى الجابري أنه بسبب هذه العوامل «لا تجد عند أمينة السعيد نزق النسويين الجدد، أو كراهية مخبوءة للرجل دون داع».

وينتقل الكتاب إلى مي زيادة، وأثرها في الحياة الثقافية العربية، رغم محاولة حبسها في الرسائل المتبادلة بينها وبين العديد من المثقفين، ويرى المؤلف أن مي «لم يجن عليها شيء مثل انفتاحها على الآخرين فتعددت صورها، حتى لم يبق إلا ظلال لا تعكس شيئاً قاطعاً، فمي التي رسمها العقاد تختلف عن التي رسمها شبلي شميل، عن صورتها لدى الأب أنستاس الكرملي، عنها لدى الرافعي وطه حسين وسلامة موسى ولطفي السيد وولي الدين يكن وأنطون الجميل وغيرهم. لقد اقتربوا جميعاً منها، وكل منهم رآها من وجهة نظره هو، فظن أن روايته هي الزاوية الفاصلة الحقيقية الوحيدة، حتى كأن الإنسانة ليس لها وجود، وإنما هناك وجود لظلالها، وانعكاسات لرسمها، وأشكال لسطورها على الورق».

ويبدأ بورتريه جمال الدين الأفغاني بمشهد شديد الجدة، وهو مشهد أحفاده وهم يتعلقون بالطائرة الأميركية هرباً مما يخشون منه في بلادهم، ورغبة في الهرب منها فوق طائرة المستعمر، في حين كان جدهم الأفغاني يحمل على عاتقه طوال مسيرته مناهضة الاستعمار، وانتقل بين مصر والهند وعدة دول أخرى منادياً بالتحرر من الاستعمار، ويعرج المؤلف على جهوده في الصحافة والفكر والتجديد، وعلاقته بتلاميذه مثل الإمام محمد عبده وغيره، وكراهية الحكام له، وطرده من أكثر من بلد، لأنه كان مصدر خطر لكثير منهم، ويرتابون في وجوده في بلادهم.

ينتقل الكتاب بعد ذلك للناقد والصحافي المصري رجاء النقاش، المعروف عنه أنه كان مكتشف الأصوات الإبداعية الجديدة، فقد كتب عن الطيب صالح ومحمود درويش في بداياتهما، وكانت كتابته النقدية نموذجاً للتوسط بين الأكاديمية الجافة والتغطية الصحافية السريعة، وكتب عن الشعر والقصة والرواية والمسرح، وقد ترأس مجلتي الهلال والكواكب في مصر، و«الراية» و«الدوحة» في قطر، وتنقل بين صحف ومجلات روزاليوسف والأخبار، وأحيا الصحافة الثقافية بعد ركودها لفترة.

وفي بورتريه عن الأكاديمية والناقدة سهير القلماوي، يرصد الجابري مواطن رياداتها المتعددة وقتالها على جبهات لا تنتهي، فقد كانت أول فتاة تحصل على الماجستير تحت إشراف طه حسين في جامعة القاهرة، فكانت تلميذته النجيبة، وسافرت إلى فرنسا لإعداد رسالتها للدكتوراه عن «ألف ليلة وليلة»، وقد كافحت للاعتراف بالأدب الشعبي إلى جوار الآداب الرسمية، كما كانت أول أستاذة في جامعة القاهرة وأول امرأة تتولى رئاسة قسم اللغة العربية، وأول رئيسة للهيئة العامة للكتاب، وهي التي أطلقت معرض القاهرة الدولي للكتاب عام 1969، كما كانت لها الريادة في أدب الأطفال، والكتابة فيه، والمطالبة بالاهتمام به، فضلاً عن حضورها الثقافي خارج جدران الجامعة، ومحاولة مواكبة أحدث المناهج النقدية التي كانت جديدة آنذاك.

ويرسم الكتاب صورة للكاتبة والمترجمة والمناضلة اليسارية الدكتورة لطيفة الزيات، التي «جسدت حياتها مرحلة من الجهد النسائي، حتى شكلت حضوراً طاغياً لوجوهها المتعددة؛ مناضلة سياسية أو مترجمة أو أستاذة جامعية أو مبدعة سرد من عيار فريد»، ويتوقف عند أهمية عدد من أعمالها الأدبية والسيرية مثل «الباب المفتوح» و«الشيخوخة» و«حملة تفتيش» و«أوراق شخصية» و«صاحبة البيت» و«الرجل الذي عرف تهمته»، وكذلك عند منهجها في النقد.

وعن يحيى حقي، الموظف ذي الأصول التركية والهوى الصعيدي، يقول إنه خرج من تجربة عمله في وزارة الخارجية برؤية أكثر اتساعاً، فزار تركيا وإيطاليا وفرنسا والسعودية، بما أتاح بعداً إنسانياً واضحاً لتجربته، تجاور فيها الغربي مع غيره من التأثيرات، هذا الخليط الذي جمع المتفرقات، فتعلم التركية والألمانية والإيطالية، مضيفاً إلى الموروث المصريٍ نظيره العربي، الذي يحل بالقوة داخل الوعي المصري وظواهره، وكلك أثر الثقافة العربية على سواها.

وتتوالى البورتريهات التي تحاول التقاط ما هو جوهري في كل شخصية من التي يتناولها الكتاب، بعناوين تحاول تلخيص روح كل شخصية، مثل «عبد الحميد جودة السحار... حتمية التقاء السينما بالأدب»، و«عبد الرحمن شكري... الرائد المنسي والمنسحب النبيل»، و«أحمد أمين يسدد الكثير من ديون التراث»، و«الإمام محمد عبده الإصلاحي الذي رحل سريعاً»، و«جورجي زيدان أو الناهض للتحيزات»، و«أسامة أنور عكاشة... سيناريست بدرجة مناضل»، و«سعد الله ونوس... أمواج مسرحية وموسيقار كبير»، و«ميخائيل نعيمة والتمرد على النمط»، و«عاطف الطيب... العزف بالكاميرا».


صراع الإمبراطوريات والأفكار في القرن التاسع عشر

صراع الإمبراطوريات والأفكار في القرن التاسع عشر
TT

صراع الإمبراطوريات والأفكار في القرن التاسع عشر

صراع الإمبراطوريات والأفكار في القرن التاسع عشر

عن دار «صفصافة» للنشر في القاهرة، صدرت حديثاً رواية «الروزنامجي» للروائي المصري هشام البواردي، وتطرح تساؤلات جذرية عن الأرض والمرض، عن الغياب والبحث عن الحكايات التي تقال، وتلك التي تظل مدفونة في الحجر والجسد والخرائط القديمة، عبر سرد يمتزج فيه التاريخ بالأسطورة، والسياسة بالروح، والقرية بالميناء، في نسيج سردي نابض بالحياة، ويلامس أسئلة الإنسان الكبرى: عن العدالة والخلاص والمعنى.

في مصر أثناء القرن التاسع عشر، بين انتشار الطاعون، والصراع الخفي بين الإمبراطوريات، يصل الطبيب الإنجليزي كامبل إلى الإسكندرية، باحثاً عن رائحة الأرض الحقيقية، وحقيقة نفسه الممزقة بين الحنين والخسارة، إذ تلاحقه ذكرى ابنته «ليزا» التي اختفت مع أمها، ويقوده قدره إلى أعماق مجتمع مكلوم، تتشابك فيه خرافات الخلاص مع يقين العلم، وتلتبس فيه المعجزة بالداء. وفي قلب هذا العالم، يقف الروزنامجي، كاتب الضرائب الذي يعرف كيف تباع القرى وتوزع الأحلام، ليسجل بأمانة زائفة تقسيم البلاد والعباد.

الرواية حافلة بالشخصيات مختلفة المرجعيات الثقافية والاجتماعية والعرقية والدينية، بما يجعلها ساحة للحوار والجدل الثقافي والسياسي، خصوصاً في لحظات سياسية مأزومة، ووباء يطارد الجميع، فضلاً عن الأزمات الشخصية والوجودية لكل منهم، وتساؤلاته الروحية العميقة، وتتوزع الأحداث على خمسة فصول رئيسة، كل منها له عنوان، وهي: كامبل الإنجليزي، حياة النفوس، دلال الحبشية، المتصاحبون، الروزنامجي. وعلى مدار هذ الفصول يتنامى الصراع على السلطة والوجود والأفكار والمكتسبات، بل على الحياة، إذ تفتتح الرواية أحداثها على الوباء وانتشاره، واحتجاز الناس في محجر صحي انتظاراً للموت الذي يفتك بهم، دون العثور على دواء مناسب يعطي بعضاً من الأمل، وفي ظل هذه الأجواء يتصارع الوعي الخرافي والعقل العلمي.

يذكر أن هشام البواردي روائي مصري، من مواليد 1977 بمحافظة المنصورة، شمال القاهرة، وحاصل على بكالوريوس الصيدلة من جامعة الأزهر عام 2000، وحصل على المركز الأول في مسابقة إحسان عبد القدوس الأدبية عن روايته «الحياة عند عتبات الموت»، كما وصلت روايته «الرجل النملة» للقائمة القصيرة لجائزة ساويرس الأدبية عام 2017.

من أجواء الرواية: «تحولت الأمتعة والملابس إلى كتلة من رماد أسود، يعبث به الهواء ويطير، أمرهم كامبل ألا يدخلوا الدير مرة أخرى، وألا يقربوه، وألا يقيموا حتى صلواتهم على عتباته، وأن يتفرقوا في الأرض لو أحبوا. فزعوا من طلبه، وجُنُّوا حين طالبهم بإحضار الجير والتحاريق حتى يطهر الدير. فتح حقيبته وبحث عن قلم، عن دهان، عن لون يرسم به العلامة النكدة على بابه، وأخبرهم أن المكان موبوء، ويجب فعل هذا حفاظاً على الإنسان والحياة. اندفع الرهبان، جميعهم، ناحية كامبل، وحملوه، وقذفوا به بعيداً عن باب الدير. وتسلح كل واحد منهم بكل ما استطاع من أسلحة للاعتداء عليه لو نهاهم، وقالوا في نفس واحد: من أنت حتى تحظر بيت الرب وتمنع الخراف من دخوله؟! لم تقدر على فعل شيء للخادم أيها العاجز، فلتفعل شيئاً يُذهب الطاعون، لو تقدر».