إدغار موران يقدم مرافعة صارمة ضد «حرب لا منتصر فيها»

تزامناً مع احتفال الفيلسوف وعالم الاجتماع الفرنسي بعيد ميلاده الـ102

إدغار موران
إدغار موران
TT

إدغار موران يقدم مرافعة صارمة ضد «حرب لا منتصر فيها»

إدغار موران
إدغار موران

تزامناً مع احتفاله بعيد ميلاده 102، ينوي الفيلسوف وعالم الاجتماع الفرنسي إدغار موران إطلاق عمل جديد سيحمل عنوان «لحظة أخرى... نصوص سياسية واجتماعية وفلسفية وأدبية»، ليكون ثاني كتاب ينشره هذه السنة، بعد «من حرب إلى حرب... من 1940 إلى أوكرانيا»، الصادر قبل شهرين فقط عن دار لوب الفرنسية، الذي حاول فيه تقديم قراءة فلسفية تاريخية للحرب الجارية بين روسيا وأوكرانيا، اتسمت بجرأة كبيرة، خاصة أنها تعارض وجهة النظر الرسمية المعتمدة لدى الغرب، التي تبرر انخراط الدول الأوروبية في حرب تعلم أنها لن تنتهي أبداً كما يتم التوقع لها، ولا سيما أن الحروب لم تخضع يوماً لمنطق المتوقع.
يرافع إدغار موران في كتابه «من حرب إلى حرب... من 1940 إلى أوكرانيا» ضد الحرب مهما كانت دوافعها، فهو يرى أنها على عكس المتعارف عليه لا تنتهي بمنتصر، بل بمجرد وهم يدعو إلى اعتقاد أحد أطرافها أنه انتصر، وهي حقيقة وقف عليها صاحب «مدخل إلى الفكر المركب» عبر معايشته للحرب العالمية الثانية والتحاقه بالمقاومة الفرنسية عام 1940 إثر الغزو النازي، ثم إثر التحاقه بالقيادة العسكرية الفرنسية التي شهدت هزيمة ألمانيا وانتهت باحتلالها وتقسيمها.

بالنسبة لإدغار، فإن الحرب الروسية الأوكرانية لا تختلف عن أي حرب أخرى شهدها العالم، لكنها قد تكون أيضاً مقدّمة لحرب كونية ثالثة بسبب انخراط الدول العظمى فيها، وما انجرّ عن ذلك من حماسة لا يبررها واقع الحرب، بقدر ما تبررها أوهام من يرغب في الانتصار فيها، رغم أن الانتصار في مثل هذه الحروب شبه مستحيل، لأن الأمر لا يتعلّق بقتال يخوضه «الطيبون ضد الأشرار»، بل بصدام مقيت بين مذنبين تعارضت مصالحهم. ومن هنا جاءت مقاربة الكاتب شخصانية تستقرئ التاريخ وذاكرته الشخصية في آن واحد، ولكنها تلتزم بالتأمل الفلسفي الذي كثيراً ما طبع أعمال إدغار موران، فنجده يقول شارحاً الأسباب التي دفعته إلى الكتابة: «أعادتني حرب أوكرانيا إلى ذكرياتي الرهيبة عن الحرب العالمية الثانية. الدمار الجماعي، المدن المدمرة والمدمرة، وأجساد المباني المفجوعة، وكثير من الوفيات بين الجنود والمدنيين، وتدفق اللاجئين... عشت من جديد جرائم الحرب والمنظور المبسط المطلق والدعاية الكاذبة. وعادت إلى ذاكرتي سمات مشتركة في جميع الحروب التي عرفتها؛ حرب الجزائر، حرب يوغوسلافيا، حروب العراق. كتبت هذا النص لكي تساعدنا دروس 80 عاماً من التاريخ في مواجهة الحاضر بصورة واضحة، وفهم ضرورة العمل من أجل السلام وتجنب أسوأ كارثة لحرب عالمية جديدة».
هكذا نجد الكاتب يستحضر صورة قاتمة للحرب عبر استعادته لذكرياته في الحرب العالمية الثانية، لكنه لا يسمح لمشاعره رغم وضوحها بالتحكم في النتائج التي ينتهي عندها، فهو إن قدّم شهادته عن الحرب إلا أنه لا يدعي أنها وجهة النظر الوحيدة التي يجب الأخذ بها، فغايته هو الاستئناس بالذاكرة والتاريخ بهدف الوصول إلى فهم حقيقي للحرب، عبر تفكيك معناها تفكيكاً فلسفياً ليظهر مدى خطورة الحرب الروسية الأوكرانية، وليبرر بنحو موضوعي أسباب اعتقاده أنها ستقود إلى حرب عالمية ثالثة أسوء بلا شك من سابقتيها.
يعتقد موران أن فهم الحرب القائمة حالياً يستدعي دراستها دراسة تاريخية صرفة، بعيداً عن السياسة وآلة الترويج الإعلامي، وهذا باستعراض تاريخ أوكرانيا وروسيا منذ القرن التاسع عشر إلى يومنا هذا، ثم البحث عن الأسباب التي دفعت الدولتين لتكونا طرفي علاقة غير مستقرة كل هذا القدر من الزمن، والأهم من ذلك البحث عن الأسباب الخفية التي دفعت الدول الحليفة والصديقة لكليهما بإبقاء هذه العلاقة على ما هي عليه، دون أي محاولة جادة في التوسط لإصلاحها. وحين ينتهي هذا البحث ستظهر لا محالة المصالح المتعارضة التي أدت محاولة الحصول عليها إلى هذا الوضع، الذي لا يمكن الخروج منه إلا بمناقشة صريحة لهذه المصالح، وهذا ما لن يتحقق أبداً في ظل الهستيريا الحربية التي تروّج لها وسائل الإعلام.
في هذا السياق، يؤكد موران أن ترويج هستيريا الحرب يقوم على فكرتين أساسيتين؛ كراهية العدو والإيمان بجرمه الكامل، وهو ما تحاول وسائل الإعلام تكريسه في الوقت الراهن عبر اكتفائها بتقديم وجهة نظر طرف دون الآخر، وهذا رغبة في تبرير الوحشية وإيهام الشعوب بما يسمى بـ«الحرب العادلة»، مسمّى تفننت الدوافع الدينية والآيديولوجية سابقاً في تقديم تعريفات واهية عنه، لأننا ببساطة لا نعلن الحرب أبداً من أجل التخلص من الحرب، على حدّ تعبير عالم الاجتماع جون جوراس، خصوصاً مع الحرب الحالية التي تخفي 3 حروب قائمة بدورها؛ حرب أوكرانيا مع المنفصلين، وحربها مع روسيا، وحرب سياسية واقتصادية دولية موجهة ضد روسيا من قبل الغرب تقودها الولايات المتحدة. وهي حروب لا يبدو أن الدول الأوروبية - بحسب ما يراه موارن - استوعبتها جيّداً، وإلا لكانت فعلت المستحيل لإيقافها وعدم السماح بتطورها مثلما يحدث الآن. يكتب إدغار موران معبراً عن هذا الهاجس بأسى واضح: «جميع هذه الأمثلة تظهر لماذا أخشى تطرُّف حرب أوكرانيا، التي قد تصبح تداعياتها الكارثية وعواقبها العالمية واسعة النطاق وضخمة، وربما تتحول إلى حرب عالمية جديدة. فالتطرُّف يتفاقم باستمرار في هذه الحرب، واندفاع الأطراف المتحاربة يولِّد الكراهية بين الجانب المعتدي والمدافع، ما أدى بالفعل إلى تحريض القومية الكبرى الروسية وزيادة الاستبداد لدى بوتين، وخلق رفض للغة الروسية التي يتحدث بها الأوكرانيون ولكل الثقافة الروسية في أوكرانيا. في سبتمبر (أيلول) 2022، أعاد بوتين تعريف هذه الحرب كحرب ضد الغرب، وأعلن زيلينسكي رفضه المطلق للتفاوض مع بوتين، بينما لا تهدف الولايات المتحدة إلى تحرير أوكرانيا فقط، بل إلى ضعف روسيا بشكل دائم».
تظهر أهمية كتاب «من حرب إلى حرب... من 1940 إلى أوكرانيا»، في الكمّ الهائل من التأملات الكثيرة، التي حررها إدغار موران، القائمة على مقابلة الحروب السابقة، التي عايش معظمها، مع الحرب الروسية الأوكرانية، وانتهائه عند حقيقة أن حرب الخير ضد الشرّ لا تعني انتصار الخير، وإن تمّ تدمير الشرّ بالكامل، فنشوب الحرب هو شر بذاته. ولعلّ ملايين القتلى وعشرات المدن المدمرة وآلاف المآسي التي عاشها العالم بسبب الحروب الموصوفة بالخير والعدل أكبر دليل على هذه النتيجة، «لقد استغرق الأمر سنوات وعقوداً ليصبح واضحاً أنه على الرغم من كون المقاومة عادلة، فإن حرب الخير كانت تحتوي دائماً على شرٍ في داخلها».
* كاتب جزائري


مقالات ذات صلة

شركات الذكاء الاصطناعي التوليدي تلجأ إلى الكتب لتطوّر برامجها

تكنولوجيا شركات الذكاء الاصطناعي تتفق مع دور النشر بما يتيح لهذه الشركات استخدام الأعمال المنشورة لتدريب نماذجها القائمة على الذكاء الاصطناعي التوليدي (رويترز)

شركات الذكاء الاصطناعي التوليدي تلجأ إلى الكتب لتطوّر برامجها

مع ازدياد احتياجات الذكاء الاصطناعي التوليدي، بدأت أوساط قطاع النشر هي الأخرى في التفاوض مع المنصات التي توفر هذه التقنية سعياً إلى حماية حقوق المؤلفين.

«الشرق الأوسط» (باريس)
يوميات الشرق كاميلا ملكة بريطانيا تحصل على الدكتوراه الفخرية في الأدب بحضور الأميرة آن (رويترز)

قدمتها لها الأميرة آن... الملكة كاميلا تحصل على دكتوراه فخرية في الأدب

حصلت الملكة البريطانية كاميلا، زوجة الملك تشارلز، على الدكتوراه الفخرية؛ تقديراً لـ«مهمتها الشخصية» في تعزيز محو الأمية.

«الشرق الأوسط» (لندن)
كتب سوزان بلاكمور وابنتها أميلي تروسيانكو  أثناء حفل توقيع كتاب "الوعي: مقدمة"

الشبحُ في الآلة

شغل موضوع أصل الأشياء The Origin مكانة مركزية في التفكير البشري منذ أن عرف البشر قيمة التفلسف والتفكّر في الكينونة الوجودية.

لطفية الدليمي
كتب سيمون سكاما

قصة اليهود... من وادي النيل حتى النفي من إسبانيا

يروي الكاتب البريطاني اليهودي «سيمون سكاما»، في كتابه «قصة اليهود»، تفاصيل حياة اليهود ابتداءً من استقرارهم في منطقة الألفنتين

سولافة الماغوط (لندن)
ثقافة وفنون العالم الجغرافي والمحقق اللغوي الكويتي د. عبد الله الغنيم شخصية معرض الكتاب لهذا العام

معرض الكويت الدولي للكتاب ينطلق غداً... وعبد الله الغنيم «شخصية العام»

ينطلق غداً (الأربعاء) معرض الكويت الدولي للكتاب في دورته الـ47، بمشاركة 544 دار نشر، من 31 دولة، منها 19 دولة عربية و12 أجنبية.

«الشرق الأوسط» (الكويت)

الشبحُ في الآلة

سوزان بلاكمور وابنتها أميلي تروسيانكو  أثناء حفل توقيع كتاب "الوعي: مقدمة"
سوزان بلاكمور وابنتها أميلي تروسيانكو أثناء حفل توقيع كتاب "الوعي: مقدمة"
TT

الشبحُ في الآلة

سوزان بلاكمور وابنتها أميلي تروسيانكو  أثناء حفل توقيع كتاب "الوعي: مقدمة"
سوزان بلاكمور وابنتها أميلي تروسيانكو أثناء حفل توقيع كتاب "الوعي: مقدمة"

شغل موضوع أصل الأشياء The Origin مكانة مركزية في التفكير البشري منذ أن عرف البشر قيمة التفلسف والتفكّر في الكينونة الوجودية. الموضوعات التأصيلية الأكثر إشغالاً للتفكير البشري منذ العصر الإغريقي ثلاثة: أصل الكون، أصل الحياة، أصل الوعي.

الوعي بين هذه الموضوعات الثلاثة ظلّ اللغز الأكثر إثارة ورهبة واستجلاباً للأسطرة والمقاربات غير العلمية، وربما تكون عبارة «الشبح في الآلة The Ghost in the Machine» التي شاعت منذ أيام الفلسفة الديكارتية تمثيلاً للوعي تتفق مع ثنائية العقل-الجسد The Mind-Body Duality. بمقتضى هذه الثنائية الديكارتية يكون الوعي كينونة غير مادية (الشبح) وقد استوطن في كينونة مادية (الآلة أو الجسد البشري).

فضلاً عن الأهمية الفلسفية لدراسة الوعي فقد صارت المقاربات العلمية في هذه الدراسة تتعاظم يوماً بعد آخر بسبب ارتباطها العضوي مع موضوعات عظيمة الأهمية في مقدّمتها مباحث الذكاء الاصطناعي بكلّ تفريعاته (الذكاء الاصطناعي العام، تعلّم الآلة، الشبكات العصبية...)، بعبارة أخرى: صار الوعي موضوعاً يقع في صميم الجهد البحثي الذي تتأسّس عليه القيمة الجيوستراتيجية للدولة المعاصرة. أمرٌ آخر تتوجّب الإشارة إليه: الوعي بطبيعته جهد بحثي عابر للتخصصات؛ لذا فهو يتناغم مع طبيعة المباحث العلمية المميزة لعصرنا.

لكن، بعيداً عن الأسباب البحثية والاستراتيجية، لماذا يتوجّبُ على كلٍّ منّا أن يهتمّ بأمر الوعي على مستوى شخصي بمقدار قد يزيد أو ينقص بين الأفراد؟ أوّلاً يتوجّبُ علينا الانخراط في هذا المسعى لأنّ الوعي بصورة جوهرية هو الشيء الأساسي الذي يعرفه كلٌّ منّا بشأن العالَم، أو هو بوّابته إلى العالم، وأعني بهذه البوّابة: التجارب الحسية Sensory Experiences، ومن الطبيعي أنّ كلاً منّا يتوق لأن يفهم -بكيفية علمية منسّقة ومنضبطة وليس بتفكّرات شخصية متناثرة- لماذا يعدّ الوعي البوّابة الأساسية لتجاربنا في العالم. يحبّ كلّ منّا هذا المسعى ولا يرغب في جعله اختصاصاً حصرياً للفلاسفة وعلماء الأعصاب ومطوّري الذكاء الاصطناعي بكلّ متفرّعاته. ثانياً: دراسة الوعي في غاية الأهمية أيضاً في جوانب الغاية Purpose والمعنى Meaning في حياتنا البشرية. ليس في قوانين الفيزياء ما يشيرُ إلى المعنى، وليس مِنْ معادلة لحساب المعنى في تلك المعادلات. لا أظنّ -وسيتشارك معي كثيرون كما أحسب- أنّ الاكتفاء بالتطلّع في كوننا يمنحنا معنى لحياتنا هو ما يحقّقُ فعلاً هذا الأمر؛ لأننا نحن من يخلعُ المعنى على كوننا. يحصل هذا الأمر لأننا نمتلك الوعي الذي يتيحُ لنا اختبار الأشياء والتعامل معها. لدينا هنالك بعيداً في تخوم الكون البعيدة مجرّات كثيرة العدد وجميلة بما يفوق التصوّر. لماذا هي جميلة؟ لأنّنا واعون بها. هي صارت جميلة لأننا نمتلك وعياً يخبرنا أنها جميلة. أعيد القول ثانية: الوعي هو ما يخلعُ معنى وغاية على الحياة.

الدراسات الخاصة بالوعي

يُنظرُ في الأوساط الأكاديمية العالمية إلى سوزان بلاكمور Susan Blackmore على أنّها مؤلفة الكتاب المرجعي في دراسة الوعي، وأقصدُ بهذا كتابها الشائع بين دارسي علم النفس والعلوم العصبية والإدراكية وفلسفة العقل والذكاء الاصطناعي، وأشيرُ بهذا إلى كتابها الموسوم «الوعي: مقدّمة Consciousness: An Introduction» الذي صدرت طبعته الرابعة عن دار نشر «راوتليدج Routledge» قبل بضعة شهور. سوزان بلاكمور عالمة نفس وكاتبة حرة ومحاضرة جامعية بريطانية، ألّفت الكثير من المقالات العلمية وأسهمت في تأليف عددٍ من الكتب. تكتب في مجلات وصحف كثيرة، وكثيراً ما تشارك في برامج إذاعية وتلفازية في المملكة المتحدة أو خارجها. قدّمت الكثير من البرامج التلفازية التي نالت شهرة واسعة بما في ذلك برنامجٌ وثائقيٌ حول ذكاء القردة. من بين كتبها الأخرى سيرة ذاتية بعنوان: «بحثاً عن النور» 1996، و«حوارات عن الوعي» 2005.

ما يميّزُ كتاب بلاكمور هو جمعها بين الخبرة الأكاديمية وتقنيات التعامل مع النطاق العام، فهي معروفة باهتمامها بموضوعات التأمّل والامتلاء الروحي والذهني والباراسايكولوجيا، وقد أفردت كتاباً كاملاً للحديث عن تجربة شخصية خاصة بها شهدت فيها ما تُدعى تجربة مغادرة الجسد Out of Body Experience، وقد حكت عن هذه التجربة في سيرتها الذاتية.

الخصيصة الثانية في كتابها هو مشاركة ابنتها لها في تأليف الكتاب، وتلك علاقة نادرة للغاية بين المؤلفين. لن نتغافل بالتأكيد عن النكهة الفلسفية الأنيقة التي طبعت لغة الكتاب (مثل تناول الإرادة الحرّة وعلاقتها بالوعي)، وهذا أمرٌ متوقّعٌ فيمن يكتب عن موضوع الوعي.

ثمّة موضوعان علينا الانتباه إليهما عند دراسة الوعي: هل سنبلغُ يوماً مرحلة الفهم العلمي الكامل للوعي؟ تؤكّد بلاكمور: لا أظنّ ذلك. الفرق بين حيوان حيّ وآخر ميّت ليس محض فرق نوعي يكمنُ في أنّ الحيوان الحيّ (الإنسان على سبيل المثال) يمتلك نوعاً من مصدر للحياة السرية فيه (بكلمة أخرى: الوعي). الحيوانات الحيّة ميكانيزمات فعّالة دينامية دائمة التغيّر؛ في حين أنّ انكساراً أصاب ميكانيزمات الحركة والتغيّر في الحيوانات الميتة.

تكمن صعوبة وتعقيد دراسة الوعي في حتمية اقتران دراسة الشيء مع موضوع الدراسة؛ بمعنى آخر: استخدام الوعي في دراسة الوعي ذاته! يحضرني هنا مثالاً عبارةٌ قالها جون ناش في الفيلم السينمائي الرائع الذي يحكي سيرته الذاتية «عقل جميل». أخبر ناش طبيبه أنّه سيستخدم عقله في علاج اضطرابه الذهاني، فأجابه طبيبه: ولكن كيف تعالجُ نفسك بما هو المتسبّبُ في مرضك؟ لن تستطيع هذا. في السياق ذاته تصف بلاكمور صعوبة دراسة الوعي وتعريفه فتقول:

«يبدو أنه يَلزمنا إما أن نستخدم الوعي لدراسته هو نفسه، وهي فكرة غريبة نوعاً ما، وإما أن نحرِّرَ أنفسَنا من الوعي الذي نودُّ دراستَه. ولا عجب أن الفلاسفة والعلماء قد بذلوا جهوداً مضنيةً على مدى قرنين من الزمان من أجل الوصول إلى مفهوم الوعي، ولا عجب أيضاً أن العلماء رفضوا الفكرةَ برمَّتها لفترات طويلة؛ بل رفضوا أيضاً دراستَها. الانعطافة الإيجابية أنّ «الدراسات الخاصة بالوعي» أخذَتْ في الازدهار بدءاً من القرن الحادي والعشرين. وصل علم النفس وعلم الأحياء وعلم الأعصاب إلى نقطةٍ يمكن عندها مواجَهةُ بعضِ الأسئلة المحيِّرة على غرار: ما الذي يفعله الوعيُ؟ وهل كان لنا أن نتطوَّر من دونه؟ وهل يمكن أن يكون الوعي وَهْماً؟ وما الوعي على أي حال؟».

تؤكّدُ بلاكمور منذ البدء أنّ ازدهار الجهد البحثي للوعي في القرن الحادي والعشرين لا يعني أنّ الغموض الذي يكتنفه قد اختفى تماماً؛ فالواقع أنه لا يزال متغلغِلاً في هذا الأمر كما كان دائماً. الفرق الآن أننا نعرف عن الدماغ ما يكفينا للاستعداد لمواجَهةِ المشكلة البحثية التالية على نحوٍ مباشِرٍ: كيف يمكن لإطلاق النبضات الكهربائية من ملايين الخلايا العصبية الدماغية أن يُنتج تجربةً واعية ذاتية شخصية؟ إذا أردنا إحرازَ أيِّ تقدُّم فيما يتعلَّق بفهم مسألة الوعي فعلينا التعامُل مع هذا الأمر بجدية تامة. هناك كثير من الأشخاص الذين يدَّعُون أنهم قد وجدوا حلًّاً للغز الوعي؛ فهم يقترحون نظرياتٍ موحِّدةً عظمى، ونظرياتٍ ميكانيكيةً كموميَّة، ونظرياتٍ روحانيةً حول «قوة الوعي»، وغيرها الكثير؛ لكنّ أغلبهم يتجاهلون الفجوةَ العميقة بين العالمين المادي والعقلي.

بعد مقدّمة وتمهيد ابتدائي لموضوع الكتاب (الوعي) اختارت المؤلفّة جعل كتابها موزّعاً في خمسة أقسام، كلّ قسم منها يضمُّ ثلاثة فصول: تناول القسم الأوّل معضلة الوعي تعريفاً ومناظرةً مع مفاهيم أخرى، ثمّ تناولت الوهم الكبير The Grand Illusion في التعامل مع ظاهرة الوعي. في القسم الثاني تناولت موضوع الدماغ بوصفه الحاضنة الطبيعية (مسرح العمليات بلغة المؤلفة) للوعي، وقد أفاضت في شرح العلاقة الوثقى بين دراسة العلوم العصبية وظاهرة الوعي. خصّصت المؤلفة القسم الثالث لتناول موضوع العقل والفعل، وتناولت في القسم الرابع موضوع التطوّر ومنعكساته المهمّة على ظاهرة الوعي، ثمّ تناولت في القسم الخامس الحدود التخمية Borderlands بين الوعي وظواهر أخرى على شاكلة: أشكال الوعي المعدّلة، الواقع والخيال، والأحلام وما بعدها. أما القسم السادس والأخير فتناولت فيه المؤلّفة موضوع «الذات والآخر»؛ فكانت النكهة الفلسفية بيّنة فيه. ألحقت المؤلفة كتابها بسلسلة مصادر مرجعية ضخمة ومتعدّدة امتدّت على عشرات الصفحات من الكتاب.

كتاب بلاكمور هذا قراءة شيّقة رغم رصانته الأكاديمية ومشقّة موضوعه؛ لكنّ من يرغب في قراءة أقلّ تطلباً للجهد والوقت والتفاصيل الصغيرة فيمكنه الرجوع إلى كتاب المؤلفة ذاتها والصادر عن جامعة أوكسفورد بعنوان «الوعي: مقدّمة قصيرة جداً»، وتوجد له ترجمة عربية متاحة بالمجّان على شبكة التواصل العالمية (الإنترنت).

Consciousness: An Introduction

الوعي: مقدمة

المؤلّفتان: Susan Blackmore & Emily Troscianko

سوزان بلاكمور وأميلي تروسيانكو

سنة النشر: 2024

دار النشر: Routledge ) Taylor & Francis Group )

عدد الصفحات: 766 الوعي بصورة جوهرية هو الشيء الأساسي الذي يعرفه كلٌّ منّا بشأن العالَم... أو هو بوّابته إلى العالم