ما زال المرشح الديمقراطي للانتخابات الرئاسية صاحب الحظ الأوفر، هو جو بايدن، المنتمي لتيار الوسط، لكن على اليسار هناك مرشحين يتنافسان على الإطاحة به. هما السيناتورة إليزابيث وارين، والسيناتور بيرني ساندرز. وقد قضى الاثنان سنوات في الدعوة إلى زيادة الأجور والضرائب وفرض تنظيمات أشد صرامة على الشركات، بجانب مجموعة متنوعة من الأهداف الأخرى الساعية نحو تحقيق المساواة. ومع هذا، ثمة اختلاف شديد بين الاثنين فيما يتعلق بالموقف الآيديولوجي، فبينما يعلن ساندرز بفخر أنه اشتراكي، تصف وارين نفسها بأنها «رأسمالية حتى النخاع».
في العقود الماضية، ربما كانت الهوة بين هذين الوصفين أكبر وأكثر وضوحاً، لكن اليوم لا يجادل الاشتراكيون داخل الولايات المتحدة كثيراً حول ما يتطلبه الأمر لإشعال ثورة، أو ما إذا كان ينبغي للعمال امتلاك شركات ومصانع. واللافت أن وارين تشعر بأريحية كاملة في وصف نفسها بأنها رأسمالية، في وقت تدعو لتأمين صحي تديره الحكومة وتمثيل للعمال داخل مجالس إدارة الشركات، ودعم الحكومة للصناعة.
إذن، ما الذي يعنيه وصف اشتراكي أو رأسمالي داخل الولايات المتحدة عام 2019؟
ربما يكمن واحد من أكبر الاختلافات في نظرة المرء إلى السلطة. على سبيل المثال، في إطار انتقاد وجّهه ساندرز مؤخراً إلى وارين، أعلن أن الشركات وقفت جوارها. ويبدو أن هذا الموقف يعكس وجهة نظر سائدة في أوساط الأميركيين الاشتراكيين تدور حول أن تركز الثورة - على المستويين الفردي والخاص بالشركات - خرّب العملية السياسية. وتبعاً لهذا الرأي، تحولت أميركا اليوم إلى أوليغاركية ينعم في إطارها المليارديرات وجماعات الضغط الخاصة بشركات كبرى بالقدرة على شراء السياسات التي يفضلونها. ويرى أنصار هذا الطرح أن فرض ضرائب على الثروات والأرباح لن يخلق مجتمعاً يتميز بقدر أكبر من المساواة المادية فحسب، وإنما كذلك أكثر ديمقراطية. ويثير هذا الرأي التوقعات بأن فرض ضرائب أعلى على الثروة والأرباح يمكن أن يؤدي لانتخاب قيادات حريصة على سنّ سياسات تحقق قدراً أكبر من التساوي.
السؤال الآن؛ ما مدى دقة هذا الطرح؟ بالنظر إلى التاريخ الحديث، هل كانت المساواة الكبرى عملية معززة لذاتها؟ في الواقع، القدر الأكبر من المساواة الاقتصادية داخل الولايات المتحدة تحقق في أواخر سبعينات القرن الماضي، لكن هذه الفترة نفسها شهدت تحولاً باتجاه التوجهات المحافظة المرتبطة بالسوق الحرة، وبلغت ذروتها في انتخاب رونالد ريغان عام 1980. في تلك الأثناء، تراجعت أرباح الشركات كنسبة من الاقتصاد إلى مستوى قياسي خلال فترة رئاسة ريغان الثانية، وظلت في حالة ارتفاع مستمر - باستثناءات متقطعة خلال فترات الركود - منذ ذلك الحين.
من ناحية أخرى، فإن من يؤمنون بأن الولايات المتحدة أصبحت تخضع لنظام أوليغاركي، غالباً ما يستشهدون ببحث أجراه العالمان المتخصصان في العلوم السياسية مارتن غيلينز وبنجامين بيدج.
في إطار البحث الذي أجرياه عام 2014، عكف غيلينز وبيدج على قياس علاقات الارتباط بين نتائج السياسات والميول لدى فئات متنوعة مقسمة حسب الدخل. وتوصلا إلى أن السياسات المتبعة كانت أكثر ارتباطاً بميول أصحاب الدخول الأعلى. وقد تعامل البعض مع هذه النتيجة باعتبارها مؤشراً على أن الأثرياء لهم كلمة نافذة على الصعيد السياسي الأميركي، بينما ليس هناك صوت للفقراء وأبناء الطبقة المتوسطة.
ومع ذلك، هناك كثير من الأسباب التي تدفع للتشكك في هذه النتيجة. أولاً؛ المجموعة التي وصفها غيلينز وبيدج بأنها «ميسورة» هي تلك التي تكسب أكثر عن 146000 دولار سنوياً. ورغم أن هذه الفئة تشمل طبقة المليارديرات التي يهاجمها الاشتراكيون، فإنها تشمل كذلك أشخاصاً يندرجون بالكاد تحت مسمى «أثرياء». ثانياً والأهم أن القائمين على الدراسة توصلا إلى وجود حالة ارتباط واضحة بين ميول هذه الفئة الميسورة وميول الطبقة المتوسطة. ثالثاً، فإن الارتباط لا يعني بالضرورة السببية، فمن الممكن أن يقدم السياسيون على فعل أشياء يعتقدون أنها ستخدم الاقتصاد كله، ويتصادف أنها ترضي رغبات الميسورين. علاوة على ذلك، من المحتمل أن يكون غيلينز وبيدج على خطأ، فقد جرى كثير من الأبحاث الأخرى، وخلصت في معظمها إلى أن الطبقة الوسطى، وليس الأثرياء، هي صاحبة النفوذ الأكبر بالمشهد السياسي الديمقراطي.
وليس المقصود مما سبق القول إن شديدي الثراء لا يمارسون نفوذاً على العملية السياسية، أو إن جماعات الضغط التابعة لشركات ليس لديها نفوذ داخل واشنطن، وإنما المقصود أن النضال من أجل المساواة في توزيع النفوذ السياسي أبديّ ومستمر. أما فكرة أن تقليص الثروة وتركيز الأرباح سيثير عملية معززة لنفسها، ستؤدي نهاية الأمر إلى الاشتراكية الحقيقية، فتبدو أقرب إلى تفكير قائم على أمان، وليس استيعاب للواقع. بالتأكيد من شأن السياسات التي يقترحها ساندرز جعل الولايات المتحدة مجتمعاً أقل تفاوتاً، لكنها أكثر احتمالاً أن ينتهي بها الحال إلى الإصلاح أكثر من الثورة.
*بالاتفاق مع «بلومبرغ»