«الغزو في الزمن العابس» عنوان الكتاب الذي أصدره مؤخراً الأستاذ عبد الله بشارة، وهو رجل واكب العمل السياسي الكويتي والخليجي والعربي من الداخل سنين طويلة، وخزّن كثيراً من الأحداث كشاهد عيان متبصر. الكتاب، معتمداً على الوثائق ومشاهدات الكاتب المباشرة الميدانية اللصيقة، يصف بشكل موضوعي أحداث احتلال الكويت عام 1990 وما واكبه وما تلاه في فضاء العلاقات العربية، وهو كتاب غني بالمعلومات وكثيف في التحليل، لم يكتب من أجل معرفة حكايات الماضي فقط، ولكن لتدبر أحداث الحاضر والمستقبل.
العنوان لافت، وهو «الغزو في الزمن العابس»، والزمن العابس ما زال معنا اليوم، ونحن نخوض من جديد فصلاً آخر من فصول التمدد الإقليمي لدولة جارة على حساب ما جاورها من دول، كما نقترب من القول الفصل في أزمة طالت وتطاولت وسممت العلاقات الإقليمية واستنزفت كثيراً من الطاقة ومن رؤوس أموال الشعوب التي كان يجب أن تذهب إلى التنمية والاستقرار. الأزمة الحالية يمكن أن تُعرف بأزمة التمدد الإيراني في الجوار، ليس الجوار الخليجي، ولكن أيضاً الجوار العربي من سوريا إلى السودان إلى المغرب. التشابه كبير بين الزمن العابس الأول والزمن العابس الذي نعيشه، وصلب التشابه هو التمدد، وإن اختلفت الأدوات. فالقمة العربية التي دعت إليها المملكة العربية السعودية، والتي سوف تعقد آخر هذا الأسبوع من بين قمم أخرى، هي قمة طارئة كما كانت قمة 10 أغسطس (آب) في عام 1990 التي عقدت في القاهرة، الفرق أن الثانية تمت الدعوة إليها «بعد الحدث» والأولى تتم الدعوة إليها «قبل الحدث» تحوطاً. لا تتطابق الظروف، ولكنها تتشابه؛ حيث إن لبّ المشكلة هو دول في الجوار تريد بسط هيمنتها وتستصغر كلاً من جيرانها وقواعد القانون الدولي المستقرة.
في ذلك الزمن حاولت بغداد، ونجحت في البداية في عزل الإقليم الخليجي العربي عن امتداده الدولي، كما يروي لنا بشارة بالتفاصيل، وعدم الانفتاح على الساحة العالمية كان استجابة لمطالب عربية، على أن المظلة العربية تكفي لحلّ الخلاف. وكانت غلطة كبرى، واليوم تريد دولة إيران استخدام التكتيك الماضي نفسه! للعجب! يقدم مندوب إيران لدى الأمم المتحدة رسالة عاجلة إلى الأمين العام للمنظمة الدولية، يُعلمه فيها أن «الخروج من الأوضاع الأمنية المعقدة يكون عبر الحوار بين دول الخليج!»، ويحثّ الأمين العام على العمل على ذلك المحور! أليس في ذلك تطابق في التكتيك، الذي مرّ أول مرة، وانتهى كما يقول الأستاذ بشارة بكارثة! أما قمة 1990 فقد كانت أقرب إلى المسرح المضحك المبكي، ولولا وقوف المملكة العربية السعودية بقيادة المغفور له الملك فهد بن عبد العزيز وتنفيذ الدبلوماسي الحصيف سعود الفيصل معززاً بموقف مصر وسوريا ودول الخليج، الذي كان صارماً ضد الاحتلال، لكانت لعبة الطفولة الثورية والتواري خلف الشعارات من الدول العربية الأخرى قد ميّعت، وربما صفّت القضية.
يغيب عن القمة العربية في مكة كل اللاعبين العابثين في الوقت الضائع، بعضهم في المنفى، وآخرون انتقلوا إلى رحمة الله بعد أن تخلصت شعوبهم منهم وخسروا سلطاتهم، وقتها لم يتبين لكثيرين من متخذي القرار العرب أنهم يمكن أن يؤكلوا بعد أن يؤكل الثور الأبيض، كما يقول المثل، لعل أحداث تلك القمة تذكر الجميع في مكة آخر هذا الأسبوع أن المطلوب هو موقف صلب للدفاع عن مستقبل أوطانهم، فدرس التفكك السياسي الذي وصل إليه العرب عام 1990 يجب ألا يتكرر، فالتمدد الإيراني يشتهي أن يصل إلى كل أرض العرب بعد أن يهيمن في نظره على أرض الخليج، فالقمة العربية في مكة حاسمة بامتياز، كما أنها أكثر حسماً كقمة خليجية تتبعها، وما دعوة مندوب إيران لدى الأمم المتحدة إلا دعوة بائسة لفكّ اللحمة العربية والدولية عن دول الخليج من أجل الاستفراد والهيمنة، وهي منطقة حيوية لاقتصاد العالم.
لا عاقل يطلب الحرب أو يسعى إليها، إلا أن السيناريو القائم أمامنا يتجه إلى حلّ من اثنين؛ إما تراجع الإرادة الأميركية (وليس الإدارة فقط) عن المواجهة والخروج من الساحة، وبالتالي ترك المنطقة كلها في مستنقع الفوضى والحروب الجانبية، أو الثاني وهو قبول إيران بالتراجع عن شهوتها في التمدد، سواء من صناعة وتخزين أسلحة ذات قدرة على الدمار الشامل أو التمدد في الجوار وخلق بؤر عدم استقرار تؤرق الدولة والشعب في أكثر من دولة عربية. مسألة أيهم أقرب إلى الحدوث في تلك الثنائية الاحتمالية مفتوحة للاحتمالات، باستعادة ومقارنة ما حدث عام 1990 وما تلاه مع أحداث اليوم، فإن احتمال صراخ الحرب وعزل المنطق العقلي في التعامل مع المحيط الدولي، ووهم إيقاظ الخلايا النائمة في أكثر من مكان، هو الأقرب إلى القبول في طهران. الاحتمال الوسيط أن يظل الأمر كما هو في مواجهة تستنزف كثيراً من الموارد المالية والإنسانية والاقتصادية، قد يحتمل هذا الموقف الوسيط لفترة، ولكنها لن تطول! تأتي تصريحات من طهران بأن لا حرب، ربما يكون ذلك صحيحاً، وربما تكون تلك تمنيات.
بالعودة إلى أحداث 1990 نجد أن الراحل ياسر عرفات كما يروي لنا عبد الله بشارة في كتابه، يدعو إلى مؤتمر صحافي في بغداد قبل ساعات من بدء الحرب عام 1991 ويقول للجميع «لا حرب لا حرب»، وتنقل الصحف في اليوم التالي تصريحاته، مشفوعة بعدد الطلعات الجوية للحلفاء في سماء بغداد! اليوم مثل أمس، السياسيون يرفضون مغادرة قناعتهم دون تبصر لما يحيط بهم من أحداث.
ليس لدى الوسطاء الكثير مما يستطيعون فعله، فلا الوساطة العراقية قادرة على التأثير في الطرفين، ولو أن قلقها مشروع من نتائج تلك المواجهة على ساحتها، ولا الوساطات الكلامية الأخرى. هي فقط محاولات، أمامها حائط من الآيديولوجيا الإيرانية المتيبسة، كما أن الإيرانيين يرغبون في وساطة تستطيع أن تقدم لهم شيئاً من حفظ الكرامة الوطنية، وجميع الوسطاء حتى الآن غير قادرين على فعل ذلك.
القرارات القاتلة المشار إليها في عنوان المقال هي قرارات صدام حسين، التي تناولها بشارة بالتفصيل؛ القناعة الراسخة بالانتصار في الصراع، واتخاذ قرارات غير مفهومة، مثل كتابة شعار «الله أكبر» على العلم العراقي، إلى توهم عمق قواعد المؤازرة، حتى مقاتلة «الكفار» بالعون غير المرئي، وشحن جثث المعتدين في أكياس بيضاء، إلى رفض التفاوض في جنيف في الساعات الأخيرة بين وزير خارجية العراق ووزير خارجية الولايات المتحدة، وآخر من قابل صدام حسين من المندوبين الدوليين الأمين العام للأمم المتحدة وقتها خافير دي كويلار؛ حيث أكد الأول أن لا حرب ضده، وإن تمت فهو المنتصر!! ما أشبه الليلة بالبارحة!
آخر الكلام... الحرب الإعلامية مشتعلة على خلفية أزمة إيران، كثير منها أخبار كاذبة، وأخرى تستهدف الروح المعنوية العربية، يشارك بها عرب مغرر بهم أو مبرمجون لصالح الطرف الآخر!
8:32 دقيقه
TT
إعادة زيارة لقرارات قاتلة
المزيد من مقالات الرأي
لم تشترك بعد
انشئ حساباً خاصاً بك لتحصل على أخبار مخصصة لك ولتتمتع بخاصية حفظ المقالات وتتلقى نشراتنا البريدية المتنوعة