«كاف الجنون»، جبل في الجنوب الغربي الليبي. الكاف في اللهجة الليبية تعني الجبل، وهي تصحيف للكهف... غريب في هيكله الأسطوري، صخر يتداخل في نتوءاته مع هامه المرتفع، وثقوب واسعة يجلل أطرافها السواد واللون البني كأنه لحية نبتت من شعر الزمان. أسطورته يكتبها كل من اقترب منه بحروف خاصة.
عندما تهب الرياح يصدر عن «الكاف» الشاهق أصوات كأنها صراخ ملاك يحدث الصحراء بلغة الجان الساكن في قلب الكاف الرهيب. منطقة أكاكوس في الجنوب الغربي لليبيا القريبة من الحدود مع الجزائر صنفتها منظمة «اليونيسكو» جزءاً من التراث الإنساني، وهي بحق كيان من العجائب، يتدفق إليها آلاف السياح، تعلو جبالها رسوم حفرت في مواقع مختلفة على الجبال. يقول مؤرخو عصر ما قبل التاريخ إنها كانت أرض حضارة وزراعة، ويستدلُّون على ذلك بالرسومات التي تتعدد فيها الحيوانات والنشاطات الإنسانية. في تلك المنطقة اكتُشفت أقدم مومياء في التاريخ، والعجلات التي تجرها الحيوانات المختلفة.
منطقة أغاديت في أكاكوس غابة صخور كتبها الزمن بصلابة الطبيعة التي عبرت آلاف السنين، أخذت من جوف الأرض ومن سطحها، وأجبرت البشر على أن يسيروا فوق أديم الأرض التي نحتها إزميل الدهر وبثَّ فيها أرواحاً مضافة إلى أرواحهم.
مدينة واسعة من الصخور الممتدة فوق رمال لها لون البشر وأنفاس العجائب. بيوت من حجارة متعددة الألوان، وفي المرتفع الشاهق الجبل الزعيم الذي يطل على مدائن الصخور. للزعيم صوت يحكم مملكة الحجر التي قانونها الصمت والصلابة، لكن الحاكم الأسطوري الذي يسكن الكاف - الكهف - لا بد له أن يتحدث إلى أهل مملكته الصامتة، ولكن بأي لغة؟ إنها لغة كائنات خاصة، جموع الأسطورة الصلبة التي لا تتحرك، لكنها تمتلك أنفاسها الخاصة عبر الدهر الممتد بلا بداية أو نهاية، لغة الجان في مملكة الصخر الأبدية.
يردد الناس في المنطقة حكايات عبر الزمان لا يقبلون التشكيك فيها عن أحداث متكررة يختلط فيها الكلام والحركة عن كائنات تعيش في المملكة الصخرية يحكمها الملك المقيم في القصر الأعلى (كاف الجنون)، الذي ما ارتقى إليه بشر إلا وغاب في العلياء ولم يعد، وهناك من يقول إنه قابل شخصاً وتحدث إليه ثم اختفى فجأة. أما عن الأصوات التي تصدر من قمة الجبل، فإنها لا تتوقف أبداً؛ ترتفع أحياناً حتى تملأ المنطقة كلها، وقد تنخفض لكنها لا تصمت أبداً. التفسير الذي يقدمه البعض هو أن الرياح تخترق الفتحات متعددة الأحجام في جسد الجبل فتشكل جوقة صوتية مختلفة الطبقات يحسبها الناس أصواتاً صادرة من أفواه زمرة الجان التي تعيش داخل الكهف الحجري، وتصدر أوامرها إلى رعاياها الذين يسكنون في بيوت الصخر المنتشرة في امتداد أرضه (التراب)، ولغته (حروف الرياح).
الأسطورة إبداع لم يُولَد من الخيال وحده، شاركت الطبيعة في تصميم أرحامه، فالصحراء التي كانت قبل زمن سحيق أرض الغابات وعاشت فيها أصناف من الحيوانات التي بقيت صورها محفورة على صفحات صخور الجبال، لم تكن لقيطة الوجود، بل هي من أحفاد دهور مضت، لكنها أعادت حياتها في وسط أدغال الصخور التي شكّلت حياة صامتة تعيش في داخلها كائنات وُلدت من رحم ماضٍ أعاد خلق ذاته من إبداع الطبيعة والناس. كل مَن زار المنطقة من الليبيين والأجانب حملوا معهم معلومات وأسئلة تلد أخرى. السؤال الأكبر: كيف تكونت هذه المملكة الصخرية وعبرت حلقات الزمان؟ وأين ذهب البشر الذين كانوا بين أدغالها يوماً؟ ومن أين أتت الحيوانات التي ملأتها، وكم من وقت مرّ على هذا التحول الرهيب في المكان والكيان؟! أيضاً من الغريب أن هذه المفازة لا تشهد أي نوع من أنواع الحياة اليوم سوى قوافل السيارات الصحراوية التي تحمل السياح من كل أنحاء العالم. في المناطق الجبلية بالشمال الغربي لليبيا حفر السكان بيوتاً معلقة في واجهات الجبال وعاشوا فيها ردحاً من الزمان، وهناك مَن حفر في أقدام الجبال بيوتاً ما زالت قائمة إلى اليوم. لماذا لم نرَ العمل نفسه في جبال أكاكوس بجنوب ليبيا؟ هل كان الكاف الذي يعتقد السكان أن ملكاً من الجن يعتليه، ويفرض حكمه على مدينة الحجارة الأسطورية هو السبب؟ لم يحاول أحد حفر آبار لتأسيس حياة تقوم على الزراعة تردفها حياة الرعي في المناطق القريبة من مملكة الجان. لكن رغم ذلك تقاسم الناس حالة خاصة مع هذا التكوين الفريد، وهو تخليق معتقدات وتفسيرات أثرت ملكة الخيال عند كل من عاش قرب قصور الحجارة التي يقول علماء الآثار والجيولوجيا إنها غابات من أشجار متناهية الضخامة والكثافة تحجرت مع مرور الزمن وتحولت إلى بيوت من جبال رائعة التشكل، وكأنها من إبداع عباقرة الهندسة المعمارية. هناك مدن قديمة نحتت في الجبال، مثل مدينة البتراء في الأردن التي عكست حضارة أقوام جعلوا منها معلماً لإبداع الإنسان وقوته، وكذلك في بعض مناطق الجزيرة العربية. أما في مصر الفرعونية فقد اتخذ الملوك من الحجارة أسفاراً كتبوا فيها حلقات مجدهم التي أسكنوا في عمق صلابتها صور ملوكهم وملكاتهم، وحفروا بلغتهم الهيروغليفية سيرة حياتهم.
قد يكون النيل الذي يهب الحياة بغزارة مائه وعذوبتها هو المليك الذي منع الصخور من أن يكون لها سطوة وأسطورة «كاف» الجنون في الصحراء الليبية.
لقد تعرفت إلى البروفسور الإيطالي الراحل موري، عالم آثار ما قبل التاريخ، الذي كان مسكوناً بجبال أكاكوس، إلى حد جعله يوقف حياته وعلمه على دراسة كل شيء في تلك الأرض التي ترتفع فيها قصور الحجارة، وتنتشر فيها الرسوم الصخرية القديمة، وتحكمها قوة غريبة لا تُسكت حلقات الزمان أصواتها. كان البروفسور موري يبذل جهداً كبيراً من أجل الحصول على الأموال من المؤسسات الخاصة والجهات الرسمية الإيطالية من أجل الغوص المتواصل في سر الأسرار المبثوثة في ذلك التكوين الطبيعي التاريخي العجيب. رحل مجنون أكاكوس، ولكن الحاكم الذي لا يصمت ظلّ يطل على مملكته الحجرية صارخاً على مدن الزمان، الكاف الذي يحكم مملكة الحجارة الأسطورية.
TT
كهف الجنون حاكم مملكة الحجارة
المزيد من مقالات الرأي
لم تشترك بعد
انشئ حساباً خاصاً بك لتحصل على أخبار مخصصة لك ولتتمتع بخاصية حفظ المقالات وتتلقى نشراتنا البريدية المتنوعة