محمد الرميحي
أستاذ الاجتماع السياسي في جامعة الكويت. مؤلف عدد من الكتب حول مجتمعات الخليج والثقافة العربية. رئيس تحرير مجلة «العربي» سابقاً، ومستشار كتب «سلسلة عالم المعرفة». شغل منصب الأمين العام لـ«المجلس الوطني للثقافة» في الكويت، وعضو عدد من اللجان الاستشارية في دولة الكويت. مساهم بنشر مقالات ودراسات في عدد من الصحف والمجلات المختصة والمحكمة.
TT

العالم آحاد وأصفار

في الأسبوع الماضي سُرق مبلغ ضخم من أحد البنوك الكويتية، استرد معظم المبلغ بعد حين، ولكن البنك انتهى بخسارة ملايين من الدولارات، قبلها بأشهر تعرض بنك كويتي آخر للسرقة عن بعد، ولكن السارق سحب مبالغ صغيرة لم يتبينها نظام البنك إلا بعد فترة، قبل أسابيع تعرض أحد أكبر المستشفيات في دولة خليجية لتعطيل نظامه الإلكتروني، وتوقف المستشفى ساعات طويلة عن تقديم الخدمات، بما فيها العمليات المبرمجة سلفاً لمواطنين. قبل أعوام قامت منظمة إجرامية روسية باختراق حواسيب «سيتي بنك» في أميركا وسرقة عشرة ملايين دولار رحلتها إلى ألمانيا وفنلندا، تلك بعض الأحداث الأخيرة والمتكررة التي بدأ العالم يعاني منها منذ سنوات، أي منذ تطور نظام الاتصال حول العالم وانتقاله من نظام تناظري (أنالوغ) إلى نظام رقمي، حدث هذا التطور بأقل من ربع قرن فقط من الزمان، سيطر النظام التناظري على الاتصالات التي كانت تسمى «الميكرويف» فترة قصيرة منذ انتهاء الحرب العالمية الثانية، ثم انتقل العالم بسرعة إلى النظام الحديث (الحزمة الرقمية) منذ منتصف التسعينات من القرن الماضي.
الذي يُعرف من أسرار هذا الفضاء حتى اليوم جزء يسير، وتعرف الحكومات العميقة، خاصة في الغرب، أضعاف ما يعرف في العلن، ولكن أيضاً المخاطر على الأفراد والمؤسسات والدول أكبر مما يتوقع كثيرون. لم يعد العالم يدار بالأسلحة أو الطاقة أو المال، ولم تعد الجاسوسية تخطي حدود الآخر أو استخدام الفتيات الجميلات، العالم يدار اليوم بالآحاد والأصفار. الإثارة التي يبعثها الحديث حول الحرب في الفضاء السيبراني موثقة أو بعضها على الأقل بعمق في كتاب عالم المعرفة الصادر شهر مارس (آذار) هذا العام، وهو بعنوان «المنطقة المعتمة: التاريخ السري للحرب السيبرانية» ألفه فرد كابلن وترجمته سلسلة كتاب «عالم المعرفة» التي يصدرها شهرياً المجلس الوطني للثقافة في الكويت، معاناة المؤلف في جمع المادة والتي شرحها بشكل مفصل لافتة، فلم يترك المؤلف حجراً في أسرار هذا الفضاء في الولايات المتحدة إلا وقلبه، ومع ذلك يعترف أن ما قدمه للقراء هو فقط رأس جبل الثلج الذي يشكل هذا العالم الأحادي الصفري.
قراءة الكتاب تقدم نظرة واسعة لهذا العالم الخفي والمعارك التي تدور في الولايات المتحدة من أجل تطوير النظام الرقمي العالمي وأيضاً من أجل حمايته، واللاعبون حوله من جماعات التدخل غير البريء (الهاكرز) وعصابات السرقة ومافيا المال وجماعات المصالح والدول كثيرة ومتعاظمة، أصبحت الحرب بالأرقام حرباً حقيقية لم يعد النصر من نصيب من لديه ذخيرة أكثر، بل من يُسيطر على المعلومات.
يغوص الكاتب في تجربة الولايات المتحدة، وهي ربما التجربة الأعرض، ويشرح بالوثائق الصراع بين المدرسة القديمة في التفكير والمدرسة الحديثة في أوساط متخذي القرار الأميركي، وكأن متخذ القرار يحتاج إلى أزمة كبرى كي يسمح بتطوير تلك الأنظمة، مثل هجمة سبتمبر (أيلول) 2001 أو تفجير أوكلاهوما أبريل (نيسان) 1995. يقول الكتاب إنه لا بوش الأب ولا وزير دفاعه دك تشيني قد تعاملا في حياتهما مع كومبيوتر! لم تعد عملية سرقة بنك تحتاج إلى حفر تحت الأرض أو أسلحة وأقنعة وسيارات سريعة كما شاهدت أجيال تلك العمليات في السينما، فقط يحتاج السارق إلى كومبيوتر صغير ولوحة مفاتيح، فأي متخصص (هاكر) في أي مكان في العالم يمكنه أن يدخل على أي نظام مالي أو تشغيلي (محطات كهرباء، محطات نووية، معلومات موظفين، أسرارهم المالية والصحية) أي: أي شيء يدار بأجهزة رقمية يمكن للمتدخل (شخصاً أو دولة) أن يسرق أو يعبث أو يدخل معلومات خاطئة وبالتالي فقد يحمل هذا دولاً على اتخاذ قرارات سريعة وخاطئة مبنية على معلومات مدسوسة في النظام. يروي الكتاب الصراع الطويل والمنهك بين مؤسسات الولايات المتحدة الرسمية والعسكرية والأمنية لملاحقة تلك التطورات والقادمة أساساً من الشركات الخاصة، أو من هواة يطورون أنظمة قابلة للبيع باستخدام أصول متواضعة، كأن يعملوا من مكتب صغير أو مرآب سيارة في البيت.
في أكتوبر (تشرين الأول) 2013 شن شلون أدلسون في مقابلة تلفزيونية هجوماً لاذعاً على الجمهورية الإيرانية وطالب بمعاقبتها بأشد العقوبات الممكنة، وأذيعت تلك المقابلة على «يوتيوب» بشكل واسع وحصدت ملايين المشاركين، أدلسون يملك أغلبية أسهم شركة «لاس فيغاس ساندز» العملاقة، وهي مالكة لنوادي قمار ومنتجعات سياحية ضخمة دورتها المالية بالبلايين من الدولارات، وبعد أقل من ثلاثة أشهر من تصريحه شن قراصنة هجوماً على مخدمات الحواسيب لشركة «لاس فيغاس ساندز»، دمر الهجوم المئات من محركات الأقراص الصلبة والحواسيب في الشركة والحواسيب المحمولة للعاملين فيها والمتصلة حواسيبهم بالمركز العام للخدمة الحاسوبية، وسرقة أرقام بطاقات الائتمان لآلاف العملاء، فضلاً عن أسماء موظفي الشركة وأرقام بطاقات الضمان الاجتماعي الخاصة بهم.
عزاء المتخصصين بعد ذلك أن مصدر الهجوم هو الجمهورية الإسلامية الإيرانية عقاباً كما يظهر لتصريحات أدلسون. وقتها تحدث الرئيس الأميركي باراك أوباما على أن تلك الهجمة التي كلفت الشركة ملايين الدولارات وعرضت أمن المتعاملين معها إلى الخطر، على أنه هجوم على «حرية التعبير»، ولم تكن ماكينات الولايات المتحدة العميقة بغافلة عن مثل تلك الهجمات، ولكنها كانت تعرف أيضاً أن أمر منعها سواء جاءت من متدخلين أشخاص (هاكرز)، أو من دول، عملية شبه مستحيلة. كوريا الشمالية لها نصيب من التدخل، ففي أواسط 2014 أعلنت شركة «سوني بكتشر» أنها سوف تطلق في نهاية العام فيلماً يروي محاولة للمخابرات الأميركية لقتل الرئيس الكوري الشمالي كيم جونغ أون، مباشرة أصدرت الحكومة الكورية الشمالية تحذيراً يقول إنها «سوف تدمر بلا رحمة» كل من يجرؤ على إيذاء القيادة العليا للبلاد.
نجح الابتزاز حيث كانت هناك سوابق تدخلت فيها مجموعات من كوريا الشمالية لتدمير أجهزة حاسوبية لشركات أخرى في كوريا الجنوبية، فألغت الشركة إطلاق الفيلم، الأمر الذي علق عليه أوباما علناً من جديد، أن الشركة لو سألته لنصحها بعدم الخضوع للابتزاز! إنما الحادثة دلت على كيفية أن تؤثر دولة بعيدة وقليلة القدرة نسبياً على خيارات شركات ضخمة تتعامل مع صناعة الرأي العام.
أصبحت البرمجيات الحديثة قادرة على اختراق أي حاسوب خاص والتحكم فيه عن بعد للتجسس على كل ضغطة زر يقوم بها المستخدم على لوحة المفاتيح، أو لتغيير ملفاته أو إبعاده عن شبكة الإنترنت. على الرغم من التعاون الوثيق في تمرير معلومات وتبادلها في هذا المجال بين ما يعرف بالعيون الخمس، أي تلك الدول الناطقة بالإنجليزية، الولايات المتحدة وكندا وبريطانيا وأستراليا ونيوزيلندا، الآن هذا التعاون الوثيق للعيون الخمس في كثير من الأوقات يفشل في توقع ما يمكن أن يحدث من هجمات سيبرانية أو شخصية، فقد حُددت مخاطر مرتكب الهجوم على المسجدين في نيوزيلندا مبكراً، إلا أن تبادل المعلومات في الوقت المطلوب أو التعرف على وجه اليقين على كنه كراهيته لم يحدث.
المؤسسات الأميركية المختصة كانت قلقة في احتمال اختراق لأجهزة «السيادة» وتعرض الأمن القومي للخطر، خاصة في منظومة القيادة والسيطرة التابعة لوزارة الدفاع، فقررت أن تجري تجربة يعرف عنها عدد قليل من المسؤولين سميت «الفريق الأحمر»، أي الفريق المعادي، فاستأجرت بعض المتخصصين، واشترطت عليهم أن يحاولوا اختراق المنظومة ولكن بما هو معروف في السوق الإلكترونية من برمجيات، قدر أن الأمر يحتاج إلى أسبوع، في ثلاثة أيام اخترق «الفريق الأحمر» معظم المنظومة، فقط شخص واحد تنبه لها في قيادة وسط الأطلسي، حيث شك فيما يصل إليه ففصل الكومبيوتر الطرفي، وهو لا يعرف سبب الخلل، كان باستطاعة الفريق الأحمر أن يرسل للقيادة العليا (الرئيس في البيت الأبيض) معلومات عاجلة من خلال النظام تنبئه بهجوم وشيك وتجعله يُفعل في اللحظة الرد الفوري! عندما عرف بعد ذلك المسؤولون الآخرون تلك الحقيقة، أصبح يقيناً عند الجميع أن الفضاء الذي يعملون فيه هو في الحقيقة منطقة معتمة عن حق. الكتاب مليء بحقائق هي للقارئ العام أقرب إلى الخيال، فلم يعد أحد آمناً في فضاء الآحاد والأصفار...

آخر الكلام:
لا يمكن لأحد أن يدعي اليوم أن هناك أسراراً لا تعرف، يكفي أن تحمل تليفوناً ذكياً حتى تحصى عليك أنفاسك، أين كنت ومع من وماذا قلت! حتى لو فعلت تطبيق الأمان، لا أمان بعد اليوم، والدول تملك ما لا نعرفه بعد، أصبحت الحرب السيبرانية والتضليل الإعلامي صنوان!