في اليوم الذي يتم فيه نشر هذا المقال، أكون على مسافة أيام قليلة من مغادرتي أنا وعائلتي لبنان سفيرا للمملكة العربية السعودية في بلد شقيق آخر هو باكستان. وهذه الأيام القليلة وما سبقها أجدها تجسد ما كتبه الفيلسوف اللبناني جبران خليل جبران «المحبة لا تعرف عمقها إلا ساعة الفراق». نعم، لقد أصاب جبران عين الحقيقة، فنحن إذ نتهيأ لترك هذا البلد العزيز نشعر أننا نترك وطنا وأهلا وأشقاء، وقد لمسنا في قرارة أنفسنا كم أن المودة عميقة بين المملكة العربية السعودية ولبنان، وكم أننا كشعبين، مترابطين، متلاحمين، يشعر أحدنا، سواء أكان في المملكة أم في لبنان، أنه في وطنه وفي منزله وبين إخوانه وأخواته.
لقد أردت أن أبدأ هذا المقال بهذه المقدمة الوجدانية للتأكيد على أن العلاقات التي تربط المملكة العربية السعودية ولبنان هي علاقات إنسانية قبل كل شيء، وقبل السياسة والاقتصاد، وكل ما عدا ذلك من شؤون، عناوين تأتي بعدها.
وقيادة المملكة العربية السعودية حريصة كل الحرص على هذه العلاقات وفرادتها، لذا سعت في كافة المراحل ولا تزال إلى الوقوف إلى جانب لبنان الدولة والمؤسسات، وإلى جانب الشعب اللبناني الشقيق بكل فئاته وطوائفه ومذاهبه، ولم يكن لها همّ سوى دعم المصلحة العليا لهذا البلد ونمائه وازدهاره وتقدمه واستقراره. وإذا كانت الأضواء تسلط بشكل دائم على اتفاق الطائف الذي أوقف الحرب ويُحتسب للمملكة، فإن المواقف السعودية البيضاء إلى جانب لبنان كثيرة في السياسة والاقتصاد والإعمار والتعليم وإقامة المشاريع المختلفة، وكلها انطلاقا من محبة المملكة وشعبها للبنان وشعبه.
خلال السنوات الخمس التي قضيتها في لبنان تواصلت مع كافة القيادات والقوى السياسية الإسلامية والمسيحية، واستمعت إلى الكثير من الأفكار والآراء ووجهات النظر وخلاصة تجربتي من كل ذلك أن الجميع يلتقون على محبة لبنان وتحقيق مصلحته في إطار من الحسّ الوطني الكبير والشعور بالمسؤولية، إلا أن الاختلاف قد يكون حول كيفية مقاربة بعض الأمور أو المنهجية التي يجب اتباعها للوصول إلى الأهداف. وأود أن أسجل للتاريخ - وكافة الذين عملت معهم وتواصلت معهم شاهدون - أن كلامي مع كافة القيادات والقوى السياسية، كان واحدا، وهو يدعو إلى الحوار وتعزيز الوحدة الوطنية وتحقيق مصلحة لبنان وتغليبها على كافة المصالح، وأن المملكة العربية السعودية صديقة جميع اللبنانيين، وتبارك كل ما يتوافقون عليه هم، لأنهم الأدرى بشؤونهم الداخلية.
وحتى أشد اللحظات وأقساها لم تدفعني إلا إلى المزيد من التمسك بصدق القول، لأن كل محب للبنان لا يسعى إلا لمثل هذه العناوين بالقول والفعل، فيما يسعى إلى عكس ذلك من لا يعي مسار التاريخ، ويعجز عن استخلاص العبر منه.
واستطرادا في ذلك أقول: إن الأحداث التي تشهدها المنطقة، وخاصة أحداث سوريا تنعكس على لبنان بشكل مباشر وتحتّم على قياداته ومسؤوليه وأبنائه التبصّر بأبعاد الأمور كي لا تنتقل النيران إلى لبنان، ويدخل هذا البلد فيما لا يستطيع تحمله. من هنا ضرورة العمل على إبعاد لبنان عن الصراعات الإقليمية وتحصين ساحته الداخلية عبر انتخاب رئيس جديد للجمهورية يؤازَر من كافة القوى السياسية على بسط سلطة الدولة واجتياز هذه المرحلة التي تقتضي حماية لبنان والعمل على أن يعبر هذه الظروف بأقل خسائر ممكنة، لا بل حصينا بوحدة أبنائه والتفافهم جميعا حول أهداف واحدة ورؤى واحدة.
ليست العقول والكفاءات التي تنقص لبنان، فهو معقلها، ولا رجال الدولة والقيادات، فهو يزخر بها، ولا الاندفاع وعلوّ الهمّة، فشعبه لها، إلا أن ما يحتاجه لبنان في هذه الفترة هو أن يعلو صوت الحكمة ويتم تغليب العقل بعيدا عن الحسابات السياسية الداخلية والإقليمية.
وفي مقام الود وطالما أن الكلام نابع من القلب والحرص الأخوي، فسوف أسمح لنفسي بأن أكرر كلمة طالما قلتها، وهي: أحبّوا لبنان. احرصوا على لبنان. تعالوا على خلافاتكم، تحاوروا، وتصارحوا، وتصالحوا، عززوا وحدتكم الوطنية، حصّنوا لبنان، عمّروه، طوّروه، ازرعوا أرضه، ارفعوا أرزه عاليا إلى السحاب، أمّنوا لأبنائكم مستقبلا جميلا زاهرا، وسلموهم بلادا آمنة، مزدهرة، مستقرة، لؤلؤة مشعّة في هذه المنطقة.
لا تورثوهم الخلافات والمشكلات السياسية والاقتصادية والأمنية، لا تدفعوهم إلى الكفر بالوطن والهجرة، تمسكوا بهم واجعلوهم يؤمنون بأرضهم ووطنهم وأرزهم.
لست أقول هذا القول للمزايدة عليكم أو إرشادكم لا سمـح الله، إنما هي صرخة تعتمل في نفسٍ محبة للبنان، وتتألم حين تراه يتألم. فلبنان بلد الحضارة والتاريخ والعلم والثقافة الذي أعطى الكثير للمنطقة العربية ولا يزال، يستأهل من أبنائه ومن كل عربي أن يندفع لأجله.
خمس سنوات قضيتها في لبنان أنا وعائلتي، تنشقنا هواء هذا البلد، وسرنا تحت شمسه، وشربنا ماءه، وأكلنا طعام أهله ومعهم، فهذه الأمور لا تهون علينا، نحن من تربّى على الأصالة واحترام القيم والتقاليد، كما لا تهون عليكـم، فجميعنا أبناء هذه الأرض وهمومنا واحدة، ومساعينا واحدة وأهدافنا واحدة.
ختاما، شكري وتقديري إلى كافة المسؤولين السياسيين والعسكريين والروحيين وكافة أجهزة الدولة ووسائل الإعلام والمسؤولين في كافة القطاعات الخاصة والعامة، وكافة أبناء الشعب اللبناني، الذي أتمنى له الرفاه والأمن والازدهار.
لبنان، من بلاد الشهامة والأصالة وأرض الفرسان جئت إليك حاملا محبتي وعميق مشاعري، وها أنا أغادرك حاملا المزيد منها، سائلا رب العزّة أن يحميك وأن يحمي بلادي العزيزة، وأن تبقى راياتكما خفّاقة في سماء الشموخ والفخر والإباء.
* سفير السعودية لدى لبنان
7:52 دقيقه
TT
لبنان.. سيبقى في القلب
المزيد من مقالات الرأي
لم تشترك بعد
انشئ حساباً خاصاً بك لتحصل على أخبار مخصصة لك ولتتمتع بخاصية حفظ المقالات وتتلقى نشراتنا البريدية المتنوعة