طارق الشناوي
ناقد سينمائي، وكاتب صحافي، وأستاذ مادة النقد بكلية الإعلام في جامعة القاهرة. أصدر نحو 30 كتاباً في السينما والغناء، ورأس وشارك في لجان تحكيم العديد من المهرجانات السينمائية الدولية. حصل على العديد من التكريمات، وقدم أكثر من برنامج في الفضائيات.
TT

مرة واحدة تكفي

أرفض تماماً أن يعتزل الفنان، طالما يستشعر قدرته على العطاء، كثيراً ما أستشهد بأنامل محمد عبد الوهاب، والتي ظل يداعب بها عوده ليمنحنا أرق وأصدق النغمات، وريشة الفنان التشكيلي صلاح طاهر، التي لم تفارقه، وقلم نجيب محفوظ الذي كان توأمه، حتى عندما صارت الكتابة شبه مستحيلة بسبب حادث الاعتداء الأخير، قاوم حتى عجزت يده عن الإمساك بالقلم، فكان الحل أن يملي خواطره، هؤلاء واصلوا الإبداع حتى التسعين.
العمق الاستراتيجي دائماً هو في القدرة والمرونة العقلية، وهكذا مثلاً لو استعدت آخر ألحان محمد عبد الوهاب، التي شدت بها نجاة عن شعر نزار قباني «أسألك الرحيلا» ستكتشف أنه من الممكن أن تُطلق على اللحن، من فرط عصريته «أغنية شبابية».
قبل أيام من رأس السنة كان الموعد الذي حددته الراقصة المعتزلة للعودة لجمهورها، انتشرت لقطات من الحفل عبر «النت» تؤكد أنها فقدت الكثير من لياقتها، لم يعد من اللائق أن تصعد مجدداً لخشبة المسرح، الراقصة العائدة، تستشهد بسامية جمال، التي عادت للرقص في السبعينات من القرن الماضي، بعد أن تجاوزت أيضاً الستين من عمرها، الفارق أن سامية كانت محتفظة بلياقتها، وقالت وقتها لسمير صبري، إنها ستقدم وصلتها على المسرح حتى تستطيع سداد ما تراكم عليها من ديون، ولم تعاود «فراشة السينما» كما كانوا يطلقون عليها التجربة مرة أخرى، هل تتذكرون تحية كاريوكا (نعيمة ألماظية) التي لعبت دور أم سعاد حسني في الفيلم الشهير «خلي بالك من زوزو»، عندما رقصت «ألماظية» في مشهد استدرَّ دموع المشاهدين بدلاً من إعجابهم، هذا هو ما يمكن أن يتكرر واقعياً، مع من يصر على تحدي الزمن.
المخرج الكبير صلاح أبو سيف سألته عند بلوغه الثمانين لماذا تعتزل المهنة؟ أجابني صحيح أن الإخراج يتكئ أولاً على اللياقة العقلية، إلا أن المخرج عندما يقف في «اللوكيشن» ينبغي أن يظل قادراً على التحرك برشاقة أثناء التصوير، وإلا انتقل الإحساس السلبي بالترهل، إلى باقي العاملين معه. عندما سألوا الفنانة القديرة نادية لطفي في عيد ميلادها قبل أيام قلائل عن سر توقفها المبكر؟ أجابت أنا خلصت (المنهج) من بدري، تقصد أنها قدمت الأدوار التي كان عليها أن تلعبها، ولهذا قررت أن تغادر (الاستوديو) وهي في ذروة العطاء.
تأملوا علاقة أم كلثوم بالزمن، كانت مثلاً تقدم حتى نهاية الستينات ثلاث وصلات غنائية، ولكنها في السبع سنوات الأخيرة من عمرها الفني، اكتفت فقط بوصلتين، بعض الحروف كانت تُشكل لها صعوبة في الأداء مثل (الشين)، فكانت تطلب من الشاعر تغييرها، أكثر من ذلك عندما وجدت أنها غير قادرة أساساً على الوقوف على خشبة المسرح، اكتفت بتسجيل آخر أغانيها «حكم علينا الهوى».
الفنان عليه أن يقرأ جمهوره جيداً، نعم بعض نجومنا كانوا يواصلون العمل، رغم فقدانهم قدراً من اللياقة مثل صباح التي تراجعت في السنوات الأخيرة إمكانياتها الصوتية، أيضاً مريم فخر الدين التي فقدت الكثير من قدرتها الأدائية، إلا أن هذا هو الاستثناء الذي يجب تجنبه.
لا أتصور أن الراقصة العائدة وهي ليست بحاجة بالمناسبة إلى مال، أو شهرة، من الممكن أن تعاود التفكير مجدداً في تكرار التجربة، فلم تكن النتائج مرضية على أي من المستويات، شاهدتها مجرد «نمرة»، ومرة واحدة تكفي.