سمير عطا الله
كاتب عربي من لبنان، بدأ العمل في جريدة «النهار»، ويكتب عموده اليومي في صحيفة «الشرق الأوسط» منذ 1987. أمضى نحو أربعة عقود في باريس ولندن وأميركا الشمالية. له مؤلفات في الرواية والتاريخ والسفر؛ منها «قافلة الحبر» و«جنرالات الشرق» و«يمنى» و«ليلة رأس السنة في جزيرة دوس سانتوس».
TT

جلال أمين... قمح غير مصري

الرجل الذي كان يدرّس آخر نظريات العلوم الاقتصادية في الجامعة الأميركية، ظلّ حتى اللحظة الأخيرة معادياً للانصراف نحو الثقافة الغربية، متعلقاً بالموروث العربي، يعترض حتى على اللحن الجميل إذا لم تكن أصوله شرقية. لذلك أعرب عن امتعاضه من كبار وأشهر المنفتحين على الغرب: توفيق الحكيم في المسرح، ويوسف شاهين في السينما، ومحمد عبد الوهاب في الموسيقى. وأعطى مثالاً على ذلك أغنية «القمح» لعبد الوهاب، أولاً على «الانخفاض الشديد في مستوى الكلمات التي لا تعكس درجة عالية من الصدق لدى واضع الكلمات نفسه، ثم اللحن الغريب الذي اختاره عبد الوهاب للأغنية، لحن ممعن في غربيته، لا يمت للقمح أو الفلاح المصري بصلة». وينتقل إلى الجمع بين عبد الوهاب وتوفيق الحكيم: «حقق الاثنان مستويين متقاربين من المجد والتبجيل. وكان كل منهما عبقرياً في بابه، ولكن العبقرية تعتمد في الحالتين على الصياغة والتكنيك أكثر مما تعتمد على مضمون العمل الفني». ثم يتساءل «أين هي رسالة الحكيم، أو فلسفة الحياة عنده، أو موقفه الفكري؟ كلاهما تأثر بالغرب في فنه تأثراً شديداً استقيا منه كثيراً من أفكارهما وأعجبا به إعجاباً بالغاً. والمدهش أيضاً أن كلاً منهما كان ينتج شيئاً مختلفاً تماماً في العشرينات والثلاثينات. أشياء أكثر أصالة وأكثر صدقاً وأوفر مضموناً وأقوى في الحس الوطني والاجتماعي».
يرى الدكتور جلال أمين وهو يتحدث عن عبد الوهاب: «إن احترام الأمة لتراثها هو احترامها لنفسها، والعبث بالتراث هو تحقير للذات واستخفاف بها. والتغليب فيه شيء كثير من هذا العبث». ولا يعتبر التطور مشكلة أو خطأ لكنه يعتقد أن عبد الوهاب تجاوز المسموح به بهذا الباب. «على أن رجلاً هذا حجمه وأثره لا يمكن ببساطة إعفاؤه من المسؤولية الأخلاقية أو الوطنية أو الاجتماعية، فحجم المسؤولية يتناسب مع حجم السلطة والنفوذ. ويروي أنه عندما كان يافعاً كان يقف بكل جوارحه مع أم كلثوم ضد عبد الوهاب: «بكل ما تمثله مؤسسة أم كلثوم من موقفٍ من التراث، بالمقارنة بموقف عبد الوهاب، ليس فقط فيما يتعلّق بنوع اللحن الذي يغنيه كل منهما، ولكن أيضاً فيما يتعلّق بتفضيل أم كلثوم لكلمات أحمد رامي وبيرم التونسي، وقبول عبد الوهاب لكلمات حسين السيد، فضلاً عن مستوى النطق للكلمات العربية لدى كل منهما».
الإعجاب المطلق والانجراف في تيار المعجبين وعدم مساءلة الكبار ليس في رأي جلال أمين سوى «ظاهرة فرعونية بلا شك، وهي بقدر ما تدعو للأسف لما فيها من تأليه من لا يجوز تأليهه، تدعو للأسف أيضاً لما تنطوي عليه من ظلمٍ لكل من كان تحت فرعون». ويقصد بذلك الفنانين والشعراء والمغنين الذين كانوا أدنى مرتبة من العمالقة، ولم يأخذوا حقهم في الحياة.
إلى اللقاء...