بعد أن سيطرت الجماعات المسلحة وعلى رأسها «الدولة الإسلامية في العراق والشام - داعش» على ثلث العراق خلال أقل من عشرة أيام، وبعد أن أصبحت تلك الجماعات ومعارك الكر والفر بينها وبين ما تبقى من مجموعات الجيش العراقي على مشارف العاصمة بغداد، وبدلا من مصارحة باقي أنحاء العراق بفشل قواته الأمنية والعسكرية التي أشرف عليها «دولة رئيس الوزراء شخصيا!»، وبدلا من التنحي وتجنيب باقي أنحاء العراق ويلات حروب الإرهاب والجماعات المسلحة، خرج إلينا المالكي ليتحدث عن الشرعية الانتخابية، وقدسية العملية الديمقراطية!!
ولو أخذنا النقاط التي يعتمد عليها المالكي في جدليته للبقاء في السلطة، نجد أنه يطرح هو وأعوانه، فكرة أن تنحي المالكي تخل بمكانة العملية الديمقراطية، وتقلب نتائج الانتخابات الأخيرة. فالمالكي حصل على 720 ألف صوت، بينما حصل أقرب منافسيه على ثلث تلك الأصوات، أي على 24 في المائة من مجموع الأصوات، وحصلت قائمته على 94 مقعدا في البرلمان العراقي.
وبالأخذ بنفس لغة الأرقام وجدلية النتائج الانتخابية، نبين:
1. العراق يعتمد النظام البرلماني، وليس النظام الرئاسي أو شبه الرئاسي. والنظام البرلماني التمثيلي يعتمد على ركيزة جوهرية في اختيار رئيس الوزراء، ألا وهي حصول القائمة الفائزة على «الثقة البرلمانية». أي أن على القائمة الفائزة (أو الكتلة البرلمانية الأكبر حسب التفسير القانوني الملتوي الذي اعتمدته المحكمة الاتحادية في العراق عام 2010) الحصول على ثقة باقي الكتل البرلمانية الفائزة والتمكن من تشكيل كتلة برلمانية من خلال عقد التحالفات اعتمادا على إعطاء مكاسب سياسية متبادلة تمثل أغلبية برلمانية تمكنها على الحصول على عدد الأصوات اللازمة للحصول على «ثقة البرلمان، ومصادقته على الكابينة الحكومية». وبنظرة سريعة على تاريخ تحالفات المالكي ووعوده التي أخفق في تنفيذ أي منها مع أي من الأطراف السياسية سواء السنية أو الشيعية، أو الكردية، نجد أنه من الصعب جدا أن يستطيع المالكي أو قائمته، دولة القانون، الحصول على ثقة النظام السياسي العراقي مجددا، ناهيك عن تراجع ثقة الجميع بقدرة المالكي على انتشال العراق من الانهيار الذي تسبب فيه. كما أن النظام البرلماني لا يعتمد الشعبية معيارا رئيسا في انتخاب رئيس الوزراء، بل يرتكز في الأساس على قدرة هذه الشخصية وقائمته على استيعاب مفهوم الشراكة، والتعامل، والتحالف مع الأطراف السياسية المختلفة ضمن النظام السياسي. أي دون تحقق «الثقة البرلمانية» لن يكون النظام البرلماني فعالا.
2. في النظام البرلماني، ليس بالضرورة أن تقوم الكتلة الفائزة، أو أكبر كتلة برلمانية، بتشكيل الحكومة، أو الهيمنة على الكابينة الحكومية، أو بالاستئثار بمنصب رئيس الوزراء. والأمثلة على ذلك كثيرة وليست ببعيدة عنا. ففي ألمانيا مثلا، لم تشكل الكتلة البرلمانية الأكبر الحكومة للفترة من (1969 – 1982)، وحدث ذلك مجددا للفترة من (1988 - 2005). وفي إيطاليا، حصل حزب «الشعب الحر» بقيادة برلسكوني على 46.8 في المائة من الأصوات، و344 مقعدا من أصل 630 مقعدا في البرلمان الإيطالي، ومع هذا سقطت حكومة برلسكوني في 2011، عندما انسحب أحد حلفائه في البرلمان، وبذلك خسر «ثقة البرلمان ومرر قرار سحب الثقة. وفي مثال أقرب، نجد أن تيار المستقبل بقيادة سعد الحريري في لبنان قد حصل على 29 مقعدا من أصل 128 مقعدا في البرلمان. ولكن سقطت حكومته، بعد ما يقارب السنة، بعد انسحاب أحد حلفائه، ومرر ضده قرار سحب الثقة، وهكذا، وعلى الرغم من أن الحريري كان يرأس أكبر كتلة برلمانية فإنه بقي في المعارضة لسنوات كثيرة.
3. إن الشرعية الديمقراطية لا تعتمد على الشرعية الشعبية، كما هو الحال في النظام الرئاسي، أو الشرعية البرلمانية كما في النظام البرلماني فقط، بل ترتكز أيضا على إدارة دفة الحكم بوسائل وبمبادئ وأعراف ديمقراطية، مثل الحرية والمساواة، ونبذ سياسات التهميش وتسييس القانون والدستور، وكل ما إلى ذلك من قيم ديمقراطية تشكل بمجموعها الشرعية الديمقراطية اللازمة لإدارة الحكومة. وتاريخ المالكي لا يتضمن أيا من هذه الأعراف والمبادئ.
4. إضافة إلى حالات التزوير الكثيرة التي سجلت أثناء الانتخابات، وحالات الترغيب والترهيب التي مارسها أعوان المالكي، نجد أن أغرب تلك النتائج أتت من مناطق ما يسمى بحزام بغداد، التي تقع ومنذ فترة تحت طائلة العمليات العسكرية التي يشنها المالكي، ومع هذا فأتى تصويت هذه المناطق لصالح المالكي!! لذلك فلا تمثل النتائج التي حققها المالكي من خلال ماكينة وقدرات «المنصب الحكومي الذي يشغله» نتائج حقيقية ومعبرة عن شعبية الرجل. وفي هذا الإطار أيضا نجد أن نسبة التصويت الخاص، عناصر الأمن والجيش والشرطة، جاءت بنتائج كبيرة جدا لصالح المالكي، فلو كان الجيش مواليا للمالكي بهذه النسبة الكبيرة فكيف له أن يتفكك خلال ساعات معدودة؟
5. المالكي حصل على هذه الأصوات قبل فشله وخسارته لما يقارب ثلث العراق للجماعات المسلحة، وقبل أن يتفكك جيشه في سابقة لم يسبق لها مثيل في التقاليد العسكرية. ثم إن الأحداث الأخيرة قد وضحت ضعف القدرات القيادية والإدارية والسياسية للمالكي، فحري أن لا يعطى مقاليد العراق مجددا. ولا بد من الإشارة هنا إلى أن الأعراف الدولية قد أفرزت إجراءات واضحة عند هزيمة جيش معين، ففي الكثير من دول العالم قام قائد الجيش والمسؤول المباشر عن تلك الهزيمة بالاستقالة والتنحي، بينما نجد أن المالكي يتشبث بدستور لم يطبقه، ويعتمد ولاءات غير حقيقية في الجيش، ويطالب باحترام تحالفات لم يحترمها يوما.
6. وأخيرا، هناك من يقول إن المالكي قد سيطر على أهم مفاصل الدولة، وأهمها الجيش والأجهزة الأمنية، وتغيره قد يؤدي إلى انجرار العراق إلى صراعات عنيفة. وهذا في حقيقته مدعاة أكبر لتغيره وعدم تجديد الولاية له، فلا يمكن السماح بنشوء ديكتاتوريات عسكرية متفردة في العراق. ولا يمكن اعتبار المالكي الرجل الذي يستطيع إدارة الأزمة الحالية في العراق، في حين أن «شخص المالكي» هو أحد الأسباب الجوهرية لتفجر الوضع في أغلب مناطق العراق.
* رئيس البرلمان السابق
في إقليم كردستان
8:37 دقيقه
TT
المالكي وجدلية البقاء في السلطة
المزيد من مقالات الرأي
لم تشترك بعد
انشئ حساباً خاصاً بك لتحصل على أخبار مخصصة لك ولتتمتع بخاصية حفظ المقالات وتتلقى نشراتنا البريدية المتنوعة