الجميع تابع بقلق كبير احتجاجات الشارع الأردني خوفاً من أن تنزلق إلى استقطابات أبواق التثوير الخارجية، خصوصاً أن الأردن من دول الاعتدال التي لم تمسها موجات الربيع العربي السابقة، لكن لفت انتباهي أمران يمكن استثمارهما في قراءة خصوصية الحالة السياسية في الأردن الدولة «الملكية» التي تقف على أرضية جيوسياسية شديدة الخطورة والتعقيد.
الأول: حجم الهلع الذي انتاب مجموعات كبيرة من الشارع العربي على بلد النشامى والذي عكس مشاعر إيجابية تجاه تجربة الأردن وشعبه، إضافة إلى الخوف المضمر من اشتعال موجات الربيع العربي مجدداً، وهو ما يعني نفوراً عاماً لدى الشارع العربي تجاه موجات الاحتجاجات التي يمكن أن تشعل حرائق لا يمكن إطفاؤها، وتتحول من احتجاجات تطالب بالإصلاح إلى تخريب يقوض الدولة ذاتها.
الأمر الثاني هو ما دونه شباب ناشطون من المحتجين أنفسهم على منصات التواصل الاجتماعي من إشادات وصلت إلى حد المديح لقوات الأمن على التعامل الراقي تجاه المحتجين رغم خروج بعضهم عن خط السلمية خصوصاً بعد الأيام الأولى التي قامت فيها قنوات تريد الاستثمار في الحدث كقناة الجزيرة إلى إعادة أسطوانة «صوت من لا صوت له».
في القراءة السياسية يجب القول إن الأردن حالة خاصة شديدة التعقيد، فعلى الرغم من أنها دولة تقريباً بلا موارد جعلها ذلك أمام تحديات صعبة جداً، ورغم تموقعها بين دول تعاني من انهيارات وانكسارات سياسية إلا أنها وبشكل تصاعدي تسعى إلى بناء مؤسساتها وبنيتها التحتية وفق قدراتها، كما ترتكز إلى سياسة خارجية متعقلة رغم فتحها للمجال داخلياً لبعض الأحزاب السياسية ممارسة حقها في التعبير، والغريب أنه كلما زادت مصادر التهديد وضرب الاستقرار الأردني من الداخل زاد حجم الرهان على ضرورة دعمه من الخارج خصوصاً من السعودية التي تعتبر الأردن حليفاً استراتيجياً لا يمكن أن تتخلي عنه، وهو ما قرأناه حين انزلقت الأوضاع إلى اتخاذ خطوة سريعة وعقد قمة مكة الطارئة التي أنتجت دعماً غير طارئ بل مستدام من شأنه أن يسحب فتيل الأزمة متى ما أدرك الأردنيون بكل أطيافهم أنهم مستهدفون بسبب حالتهم الفريدة تلك من التضامن والرغبة في تحدي كل ظروف الموارد المحدودة.
وفي الأزمة الأردنية رغم الإشادة بطريقة التعامل معها يجب أن ندرك أن الخط البياني لتصاعد التدهور الاقتصادي في الأردن يعود إلى سنوات انهيار الحالة السياسية في المنطقة في الدول المحيطة بالأردن وتحمله لأعباء وتبعات الأزمة السورية التي بدأ تدفق اللاجئين منها إلى الأردن كخيار أول منذ 2011 (بحسب الأمم المتحدة 630 ألف لاجئ وحكومة الأردن تقول إن الرقم يتجاوز المليون ونصف المليون لاجئ)، ثم جاءت انقطاعات إمدادات الغاز المصري وتضخم حضور «داعش» على مناطق واسعة من العراق وسوريا وبروز كتل شبابية تنضم إلى التنظيمات الإرهابية من الشباب الأردني مما شكل تحديات إضافية على الجانب الأمني، إضافة إلى عبء الدين العام الذي بلغ 38 مليار دولار.
افتقار الأردن للثروات الطبيعية لم يمنعه من المضي قدماً في مشروع التنمية واجتذاب رؤوس الأموال والاستثمارات العالمية في منطقة تحيط بها الفوضى والدمار والانهيارات السياسية، والحق يقال إن جزءاً من تفوق الصمود الأردني يعود إلى وجود قيم مشتركة بين النظام السياسي والقطاعات العامة من الشعب يدركها من زار الأردن أو تحدث مع أبنائه، وأعتقد أن الرهان على هذه القيم والعلاقة الخاصة بين الملك وعموم الشعب الأردني هو صمام الأمان الذي ينزع فتيل الأزمات أو الإخفاق للأداء الحكومي في فترات ما.
على الأردن اليوم تلقي زمام المبادرة السعودية الخليجية بكل ثقة «النشامى» وتحفيز بيئة الاستثمار في الأردن وتعزيز استقطاب رؤوس الأموال في ظل وجود بنى تشريعية ممتازة قادرة على حماية مصالح المستثمرين.
الدعم الخليجي للأردن هو استثمار محفّز لفضيلة الاستقرار العربي، لكن من المهم اليوم أن يترافق مع قراءة واعية من قبل مجتمعات الدول الداعمة والمدعومة للتحديات والتحولات التي تمرّ بها المنطقة وحجم التهديد الذي يطالب واقعهم ومستقبلهم والذي يمكن أن يؤثر في طبيعة الحراك السياسي والاجتماعي في المنطقة أكثر من أي وقت مضى بسبب طفرة وسائل الاتصال، وهشاشة المحتوى، ووجود تجار للأزمات، ودول تحولت هويّة أنظمتها السياسية وقدرتها على البقاء ضمن حدود قدرتها على الاستثمار في الأزمات وصنعها والتأثير فيها، لكن نجاح ذلك من فشله مرهون بتعقل النشامى وعقلانيتهم اليوم في هذه اللحظة الحرجة من تاريخهم.
8:37 دقيقه
TT
تعقّل النشامى: الأردن تحديات وآمال
المزيد من مقالات الرأي
لم تشترك بعد
انشئ حساباً خاصاً بك لتحصل على أخبار مخصصة لك ولتتمتع بخاصية حفظ المقالات وتتلقى نشراتنا البريدية المتنوعة