أنور البني
ناشط وحقوقي سوري مقيم في ألمانيا
TT

ثورة الشعب السوري لم ولن تنكسر

انطلقت الثورة السورية في مارس (آذار) 2011 ثورة شعبية شارك فيها أكثر من نصف الشعب السوري بكل أطيافه وطبقاته وأديانه وطوائفه وقومياته. وهي كانت في بدايتها هَبّة شعبية سلمية علنية شفافة رائعة، عبّر من خلالها الشعب السوري كله عن رغبته في الخلاص من الاستبداد، ورغبته في دولة مدنية ديمقراطية تحترم حقوق الإنسان وحريته وكرامته.
مع الوقت تصدرت المشهد السياسي رموز معارضة دفعت أثماناً كبيرة سابقاً في السجون لمعارضتها النظام الديكتاتوري، ونقلت مطالب الشعب السوري إلى المجتمع الدولي على أمل أن يساعد في تحققها كما ساعد شعوب أخرى، لكن في الوضع السوري ما حصل هو العكس تماماً؛ إذ وقفت دول في المجتمع الدولي كله ضد رغبة الشعب السوري، وعملت كل ما بوسعها لدعم الديكتاتورية وترسيخها. ولتصبح سوريا مسرح صراع دولي على حساب دماء السوريين، وخرجت مطالب الشعب السوري من حسابات اللاعبين الدوليين وهي لم تكن أصلاً موجودة لديهم، ويتم تقاسم سوريا كمناطق نفوذ بين اللاعبين.
وليصبح: «أين هي الثورة السورية ومن يمثلها»، السؤال المستحيل الذي عمل الجميع على طمس وتغييب الإجابة عنه، وجعل الجواب الوحيد الممكن هو: «إن الثورة انتهت ولا يوجد من يمثلها».
هل هي حقاً كذلك؟
لا أعتقد ذلك أبداً، بل ربما على العكس؛ أن الثورة السورية تجذرت في نفوس السوريين مع كل الثمن الهائل من الألم والموت والتدمير الذي لحقهم. وأعتقد أن الثورة السورية تتحول يوماً تلو آخر لتصبح مطلباً لدى كل السوريين وبكل المناطق وليس معظمهم. حتى كثر ممن كانوا لا يؤمنون بها من قبل أصبحت الآن حاجة ملحة لهم، ومن كان يتوهم أنه مع الاستبداد كونه ضد احتلال، يجد نفسه تحت نير احتلالات عدة الآن؛ فحرب الدول على الثورة السورية أنتج واقعاً مختلفاً، فلم تعد سوريا تحت سيطرة نظام ديكتاتوري مجرم يمسك بها وإنما أصبحت تحت نير احتلالات أجنبية مكشوفة وعلنية تستعين بأدوات محلية، وبالتالي تغيرت مواقع السوريين فجزء ممن كان مع الثورة ببدايتها أصبح أداة محلية لمحتل من جهة ما، وهناك من كان ضد الثورة بالبداية أصبح الآن ضد الاحتلال وأدواته المحلية. وأنا مؤمن تماماً أن السوري الذي تذوق طعم الحرية لن يقبل أبداً أن تسلب منه مرة أخرى، هذه حتمية التاريخ، وسوريا هي التي صنعت للعالم تاريخه من آلاف السنين.
ومع تغير الأوضاع على الأرض وفي السياسة، وانكشاف كل الأوراق وثبوت فشل الأدوات التي مثلت الثورة السورية في وقت ما، وفشل الأساليب التي اتبعت سابقاً لتصل الثورة السورية لنصرها، يجب أن نفكر في أدوات جديدة وأساليب جديدة تتماشى مع الوضع الآن. نفكر في كيف نعيد صوت الثورة السورية وإرادتها إلى الساحة؟ كيف يخرج السوريون من الاصطفافات الإجبارية التي اضطروا إلى الوقوف بها؟ كيف نعيد لم شمل السوريين التواقين لسوريا الجديدة، سوريا الديمقراطية المدنية؟
إن الجواب في تراث حركات التحرر الوطني، وفيما يمكن لحركة تحرر وطنية سورية أن تبدعه. حركة تحرر وطني عابرة للطوائف والقوميات تخرج السوريين من كل الاصطفافات التي تم إجبارهم على الدخول فيها قسراً، هي الأداة الأفضل لتحرير سوريا من الاستبداد والاحتلالات، وإعادة سوريا للسوريين، وإعادة السوريين إلى سوريا
فمقاومة الاحتلال وحق تقرير المصير، هما من حقوق الإنسان، ومن حقوق الشعوب التي نصت عليها الشرائع والاتفاقيات الدولية. وتكتسب شرعيتها من وجود الاحتلال والأدوات المحلية والمنفذة لمخططات دولة الاحتلال، ومن حق الشعوب بالخلاص من الاحتلال الأجنبي والتخلص من أدواته.
ولنا في التاريخ نماذج ناصعة عن حركات تحرير أنجزت تحرير بلدانها ووحدتها واكتسبت شرعية وجودها تحت هذا المبدأ، كالمقاومة الفرنسية ضد النازية التي احتلت فرنسا ونصبت حكومة موالية لها، والمقاومة الإسبانية ضد الديكتاتور فرانكو، وغيرها كثير من الأمثلة الناصعة في التاريخ.
كيف يبني السوريون حركة تحررهم؟ وما هي وسائل العمل؟
أولاً، يجب أن تبنى حركة التحرر بشكل ينسجم مع هدفها وهو بناء سوريا لكل السوريين دون أي تمييز على أساس العرق أو الدين أو المذهب.. دولة مدنية ديمقراطية موحدة تحترم حقوق الإنسان ومبادئه، ويجب أن تعلن أهدافها بكل وضوح، وتتبنى برنامجاً كاملاً لبناء هذه الدولة على أسس احترام حقوق الإنسان والديمقراطية.
ثانياً، يجب أن تتخذ أقصى درجات السرية والثقة في بناء هيكليتها، وألا يتم الاعتماد إلا على الأشخاص المؤمنين بمبادئها لمنع الاختراقات. وأن تضع هيكلية تنظيمية تعتمد مبدأي الثقة والانتخابات والانتشار بكل المناطق في سوريا.
أن تعتمد على هيكلية تعمل في المناطق المدنية لحشد الجهود لمقاومة الاحتلال وأدواته المحلية بكل أشكال المقاومة، مع الالتزام بتطبيق القواعد القانونية الإنسانية في حالات الحرب واتفاقيات جنيف وتجنيب المدنيين الأذى.
ألا تسعى للسيطرة على المناطق الجغرافية وبذلك يخرج المدنيون السوريون من معادلة القوة المسلحة والحرب والدمار، وإنما هي حالة مقاومة متحركة سرية هدفها طرد الاحتلال وإسقاط أدواته المحلية وعلى رأسهم وبأولهم نظام القتل والإجرام في دمشق.
أن تكون عابرة للطوائف والقوميات، ولا تكون مرجعيتها أي آيديولوجيا سياسية أو دينية أو قومية، وأن يكون هدفها تحرير سوريا من الاستبداد والاحتلالات وإعادتها للسوريين الأحرار لبنائها دولة حديثة مدنية ديمقراطية، وأن يكون شعارها وممارساتها منسجماً مع ذلك.
ألا يكون ظاهراً للعلن إلا الممثل والناطق الرسمي للحفاظ على حيوات السوريين المشاركين في الحركة، ومنع الضغط والتلاعب بإرادات السوريين بالتهديد أو الترغيب كما حصل مع الهيئات السياسية السابقة.
ألا يتم الاعتماد في بناء الحركة على التمويل الأجنبي، بل تعتمد الموارد الذاتية والداخلية؛ حتى لا يتم التحكم بها بالمال أو السلاح.
هذه خطة طريق أضعها الآن أمام السوريين لإعادة إطلاق صرخة الحرية والكرامة بشكل جديد وإجبار كل اللاعبين على إعادة حساباتهم ووضع رغبات وآمال الشعب السوري ببناء بلده في أول الاعتبارات.
لن ننسى أن الشعب السوري عندما قام بثورته كانت كل سوريا تحت سيطرة النظام المجرم بشكل عام وقوي، وأن الانتصارات التي يحققها بواسطة الميليشيات والجيوش الخارجية لم تكن على الثورة السورية وإنما على مجموعات تم تسليحها لتدعي تمثيلها للثورة وبقصد هزيمة الثورة بهزيمتها. وإعادة سيطرته العسكرية على بعض المناطق لا تعني الثورة بشيء.
لم ولن تنكسر ثورة شعب. لم ولن ينكسر الشعب السوري ولم ولن تنهزم ثورته. سبق أن قلت منذ عام 2011 إن ثورة الشعب السوري ستغير العالم كله وهي قد قامت بذلك وسنستمر حتى يكون العالم كله مكاناً أفضل للإنسان.
ستسقط أدوات الاحتلال المحلية وعلى رأسهم نظام الأسد المجرم وسنطرد الاحتلالات حتى آخر أجنبي منح الجنسية لسلب حقوق السوريين. سنحاسب ونحاكم كل المجرمين والقتلة ومغتصبي الحقوق. وسنعيد بناء سوريا كما يتمناها السوريون.

- خاص بـ«الشرق الأوسط»