د. عبد المنعم سعيد
عضو مجلس الشيوخ المصري حالياً، ورئيس مجلس إدارة «مؤسسة المصري اليوم» الصحافية في القاهرة، ورئيس اللجنة الاستشارية لـ«المجلس المصري للدراسات الاستراتيجية»، وسابقاً كان رئيساً لمجلس إدارة «مؤسسة الأهرام» الصحافية، و«مركز الأهرام للدراسات الاستراتيجية»، و«المركز الإقليمي للدراسات الاستراتيجية»، وعضو مجلس الشورى المصري. كاتب في صحيفة «الشرق الأوسط» منذ عام 2004، و«الأهرام» و«المصري اليوم»... وعدد من الصحف العربية. أكاديمي في الجامعات والمعاهد المصرية، وزميل زائر في جامعة «برانديز» الأميركية، ومؤلف للعديد من الكتب.
TT

قمة ترمب وكيم

أعلنت الولايات المتحدة إلغاء القمة الرئاسية بينها وبين كوريا الشمالية، ومع ذلك فإن مثل هذا الإعلان ربما لا يكون الكلمة النهائية في الموضوع، ولا يزال مآل القمة المقررة بين الرئيس الأميركي دونالد ترمب، والزعيم الكوري الشمالي كيم جونغ أون، مُعلَّقاً، وليس معروفاً ما إذا كانت سوف تنعقد أم لا. وضع الاجتماع موضع التساؤل كان مفاجأة كبرى للمراقبين والمحللين لم تقلّ عن المفاجأة السابقة عليها في تقرير القمة ذاتها، وأكثر من ذلك الاتفاق على نزع السلاح النووي لكوريا الشمالية، ما جعل المشابهة مقبولة أن اللقاء سوف يكون من حيث التأثير في العلاقات الدولية، مثل ذلك الذي حدث عندما قام ريتشارد نيكسون بزيارة بكين في مطلع السبعينات من القرن الماضي ومقابلة ماوتسي تونغ الزعيم الصيني الذي ساد الظن أنه لا يمكنه مقابلة رئيس يميني متشدد بنى سمعته السياسية على معاداة الشيوعية. ولكن اللقاء حدث بين المغرق في يمينيته، والمتشدد في يساريته لكي يسيرا معاً في طريق الوفاق الدولي، والصين الواحدة، والعلاقات الثلاثية المعقدة بين واشنطن وبكين وموسكو في زمن انقسمت فيه الحركة الشيوعية الدولية بين روسيا والصين. هذه المرة أيضاً مرت القمة عبر طريق من التشدد والعبارات الساخنة والمناورات السياسية والتجارب النووية والصاروخية وتحركات الأساطيل الأميركية، ووقتها فإن الكتابات السياسية لم تتوقف عن وضع سيناريوهات الحرب النووية بين أميركا وكوريا الشمالية؛ وكان المنطق ساعتها أن العالم يقف مصيره بين يدي زعيمين يتميزان بالتهور وعدم تقدير الأمور. كانت الكلمات والمواقف قد ذهبت بعيداً إلى حافة الهاوية في العالم.
ورغم ذلك تقرر اجتماع القمة يوم الثاني عشر من يونيو (حزيران) القادم، وتحدد له الحدوث في مدينة سنغافورة الصغيرة التي استيقظت فجأة على أنها ستكون أهم المدن في الكون. الطريق إلى القمة سبق التعرض لها في هذا المقام، حيث كانت جهود كوريا الجنوبية الخائفة من حرب تدفع ثمنها وحدها، والدور الصيني الذي كان محورياً في إقناع كيم أون بإبداء الاستعداد للتخلي عن السلاح النووي وهو الإعلان الذي كان المفتاح الذي قبل على أساسه ترمب انعقاد القمة. وبالطبع كان هناك آلاف التفاصيل الأخرى، فهل نزع السلاح النووي في كوريا الشمالية يعني أن تكون شبه الجزيرة الكورية كلها، شمالاً وجنوباً، منزوعة السلاح النووي، ومعنى ذلك أنه لا مكان أيضاً للقوات الأميركية في كوريا الجنوبية، أو على الأقل تُحرم القوات الأميركية من قواعدها البحرية القريبة والمسلحة نووياً؟ وإذا كانت بيونغ يانغ سوف تتخلى عن أمضى أسلحتها، فهل معنى ذلك أيضاً أن تنتهي المناورات الأميركية مع كوريا الجنوبية؟ وأياً كانت التفاصيل فما المقابل الحقيقي الذي سوف تحصل عليه كوريا الشمالية من نزع سلاحها النووي؟
كل هذه التفاصيل من المؤكد أن فِرقاً من المفاوضين بين كوريا الشمالية والولايات المتحدة كانوا يبحثون عن إجابات لها، وسواء كان ذلك في حضور فرق كوريّة جنوبية أم لا، وبينما كانت الصين تقوم بالدور الجوهري للوساطة وحل المعضلات أم لا، كان واضحاً أن كثيراً من المعضلات قد جرى حلها أو التعامل معها عندما زار «بومبيو» بيونغ مرتين، مرة وهو رئيس لوكالة المخابرات المركزية الأميركية، ومرة وهو وزير للخارجية. بات الطموح كبيراً أن الحرب الكورية قد وصلت في النهاية إلى منتهاها، وأن معاهدة للسلام سوف تُنهي خطوط الهدنة، وتؤْذن بمولد السلام. أيٌّ من ذلك بقيت تفاصيله وصياغاته سرية كما هو معتاد في مثل هذه الحالات حتى قام جون بولتون مستشار الرئيس الأميركي للأمن القومي، بالإعلان في حديث صحافي عن أن «النموذج الليبي» سوف يكون هادياً للمفاوضات الأميركية الكورية الشمالية. وهكذا تحول اليقين بانعقاد القمة إلى كثير من الشك، وبدت اللعبة الدبلوماسية كما لو أنها دخلت فوراً إلى طريق مسدود، أصبحت الظنون سائدة في كوريا الشمالية أن «النموذج الليبي» كان يعني من ناحية استسلام ليبيا الكامل بما لديها من أسلحة ومعلومات دون مقابل حقيقي سوى الانتهاء من أزمة لوكربي؛ ومن ناحية أخرى أنه حتى بعد الاستسلام قادت الولايات المتحدة قوات حلف الأطلنطي لكي تقوم بغزو ليبيا وقتل القذافي ذاته! لم يكن هذا ما ذهب الكوريون الشماليون إليه عندما بدأوا التفاوض والدبلوماسية والبحث عن السلام.
وهكذا انفجر الموقف على جانبي المحيط الباسفيكي، كيم جونغ أون اعتبر أن اعتماد «النموذج الليبي» مناورة للقضاء على كوريا الشمالية كما تعرِّف نفسها بقيادتها الوراثية، ونظامها الشيوعي. لم تكن كوريا الشمالية ستصير «فيتنام» أخرى، أو مثل الصين، وكلتاهما استمرت في نظامها السياسي كما أرادت حتى ولو قبلت وفق ما ترى عملية تحديث واسعة النطاق. بدا الأمر كما لو كان خديعة كبرى، وبات جلياً أن بناء الثقة الذي حدث خلال الأسابيع والشهور الماضية قد انتهى إلى أزمة ثقة كبرى جعلت القمة مشكوكاً فيها، واللقاء لا مبرر له. ومع ذلك فإن التقدير هنا هو أن الطرفين، الأميركي والكوري الشمالي، قد بدآ طريقاً ليس سهلاً التراجع عنه حتى ولو كانت مواعيد اللقاء والقمة لم تعد مقدسة وأنها قابلة للإلغاء مرحلياً. المؤكد أن الحرب لم تعد مطروحة أو مرغوباً فيها، كما أن الشوط الذي جرى قطعه في المفاوضات التفصيلية لم يعد سهلاً التخلي عنه. المؤكد أيضاً أن كلا الطرفين، ترمب وأون، بات له مصلحة في التوصل إلى اتفاق، ترمب بات مهيئاً لجائزة نوبل التي سوف تحل له كل مشكلاته الداخلية التي تتراكم يوماً بعد يوم... وفي الولايات المتحدة فإن ما قاله بولتون لم يكن أكثر من حماقة سياسية وفشل دبلوماسي، وأنه على حد تعبيرات الرئيس ترمب لا توجد مقارنة مشروعة بين «النموذج الليبي» والآخر المختلف تماماً «النموذج الكوري». في هذا النموذج الأخير فإن أبواب السعد كلها، غنىً واستثمارات، سوف تنهال على كوريا الشمالية. وفي مثل هذه الحالة فإن الضمانات تكون واجبة، وبالتالي حاضرة في المفاوضات بمزيد من التفاصيل، وهنا فإن كوريا الجنوبية التي خلقت جسوراً واسعة مع بيونغ يانغ سوف يكون لها دور مهم، ولكنّ مفتاح حل المعضلات كلها سوف تكون الصين التي يمكنها التدخل على أساس من موقفها في أثناء الحرب الكورية التي بدأت باعتداءات من كوريا الشمالية على كوريا الجنوبية، فتدخلت الولايات المتحدة بقيادة الجنرال ماك آرثر، لكي تنقذها من الشيوعية فدفعت بقوات كوريا الشمالية إلى الشمال وتوغلت فيها، فلم يكن من الصين إلا أنها دخلت الحرب ودفعت بالقوات الأميركية إلى جنوب خط التقسيم بين الكوريتين. كانت الصين هي التي قدمت الضمان في ذلك الوقت بإلحاق أول هزيمة عسكرية بالولايات المتحدة بعد الحرب العالمية الثانية، وهي التي سوف تقدم الضمان الآن لكي يتم إنقاذ اتفاق سوف يحدث عاجلاً أو آجلاً.