في 28 أبريل (نيسان)، عقد اجتماع تحضيري لوزراء خارجية روسيا وتركيا وإيران في موسكو، ناقش المجتمعون في إطاره جميع المواد المتعلقة بعقد الاجتماع التالي في آستانة، المقرر في منتصف مايو (أيار). وتبعاً لنتائج الاجتماع الوزاري، من المتوقع مناقشة قضيتين في مايو: تبادل أسرى الحرب ومصير مناطق خفض التصعيد، التي أخفقت في العمل كآلية فاعلة لوقف إطلاق النار.
يمكن النظر إلى قرار تأسيس مناطق خفض التصعيد، والذي يكمل عاماً في مايو، باعتباره ليس النتيجة الرئيسية فحسب، وإنما كذلك الوحيدة للمحادثات التي جرت في آستانة. وكان من شأن التوقيع على مذكرة إنشاء مناطق خفض التصعيد خلال الجولة الرابعة من المحادثات في آستانة، السماح للدول الراعية بالإبقاء على هذه الصيغة. وكما هو معروف، فقد سبق ذلك انهيار وقف إطلاق نار كان قد جرى التوصل إليه في ديسمبر (كانون الأول) 2016، عندما استمر النظام السوري في تعزيز حجم عملياته العسكرية، بدلاً عن الالتزام بالهدنة.
بعد ذلك، رفضت المعارضة السورية المشاركة في الجولة الثالثة من المحادثات في آستانة، ولم تكن عودة المعارضين لطاولة المفاوضات ممكنة سوى من خلال إقرار مشروع مناطق خفض التصعيد.
ومع هذا، ورغم خوض عملية مصالحة شاملة وطويلة للغاية، لم تفلح هذه الآلية. وعليه، أثيرت في مطلع عام 2018 ونتيجة الأحداث التي وقعت في الغوطة الشرقية مسألة مدى نجاعة هذه المناطق، وذلك من قبل أطراف مختلفة، بما فيها الدول الراعية ذاتها.
وبذلك نجد أن الهدوء الذي ساد جنوب سوريا، وداخل محافظة حمص، والذي غالباً ما يجري طرحه باعتباره نجاحات للدول الراعية في تنفيذ اتفاقات مناطق خفض التصعيد، لم يكن له في حقيقة الأمر صلة بجهود «ثلاثي آستانة». في حمص، جرى الحفاظ على الهدنة بوجه عام حتى قبل انطلاق المحادثات في آستانة. أما الجنوب، في درعا، فبعد فترة طويلة من الصمت امتدت على مدار العام 2016، اشتعلت أعمال قتال حادة في أعقاب إطلاق عملية آستانة مطلع عام 2017. وكان اهتمام الولايات المتحدة والأردن وإسرائيل بضرورة وقف أعمال القتال بالجنوب السوري العامل الحاسم على أرض الواقع في فرض خفض تصعيد.
في الوقت ذاته، لم تكن روسيا وإيران وتركيا الدول الراعية للهدوء الذي ساد هذه المنطقة، وإنما كان هذا الدور من نصيب الولايات المتحدة وروسيا والأردن - أي الدول المشاركة في محادثات عمان. وعليه، فإن استعداد واشنطن لاستخدام القوة ضد منتهكي نظام الصمت (مثلما حدث في المنطقة الأمنية قرب مدينة التنف) شكل العامل الرئيسي وراء تراجع التوترات في الجزء الجنوبي من البلاد.
علاوة على ذلك، تجلى افتقار نموذج وقف النار الذي أقر في آستانة من خلال محاولات موسكو المتكررة البحث عن سبل بديلة لآستانة لإطلاق حوار محدد مع قوى المعارضة في القاهرة (مع «جيش الإسلام» و«جيش التوحيد») وجنيف (مع «فيلق الرحمن») وللتفاوض مع الولايات المتحدة والأردن حول منطقة خفض التصعيد الجنوبية، وذلك في عمان.
ومع هذا، وفي خضم سعيها الدؤوب للتوصل إلى اتفاقات مع المعارضة السورية بخصوص مناطق خفض التصعيد، لم تولِ روسيا عملياً أدنى اهتمام للنظام السوري، والذي تحول نتيجة لذلك إلى أسوأ منتهك لاتفاقات آستانة. وفي الوقت الذي اضطلعت الولايات المتحدة والأردن بدور الرعاة لنظام الصمت في الجنوب السوري، وأجبرتا بشار الأسد على الالتزام بالاتفاقات المبرمة، فإن الوضع في إدلب والغوطة الشرقية جاء مغايراً تماماً.
كان من شأن الدعم الكامل الذي أولته إيران للخطط الهجومية للنظام السوري، علاوة على العجز الكامل من تركيا وروسيا عن الاضطلاع بدور الرعاة المحايدين فيما يخص تنفيذ الاتفاقات التي وقعوها، جعل إخفاق مناطق خفض التصعيد في هذا الجزء من البلاد أمراً محتوماً.
وعليه، فإن روسيا، باعتبارها الوسيط الرئيسي في عملية السلام في سوريا، فشلت في حل أي من المشكلات الأساسية التي اعتمد عليها مصير مناطق خفض التصعيد: غياب سبل للتعامل مع الانتهاكات بحق اتفاق وقف إطلاق النار، وعدم وجود آليات لمعاقبة مرتكبي الانتهاكات والمسؤوليات المحدودة بخصوص فرض الهدنة على الأطراف المقابلة. وترتب على ذلك غياب أي إمكانية لفرض هدنة حول إطار مناطق خفض التصعيد، والتخفيف بوجه عام من حدة أعمال القتال.
في نهاية الأمر، تمثلت النتيجة الأساسية التي تمخضت عنها مناطق خفض التصعيد في مزيد من التمزيق لصفوف المعارضة السورية. في مطلع عام 2017، أبدى معارضو بشار الأسد قدرتهم على بذل جهود موحدة والاستجابة للعمليات العسكرية التي ينفذها النظام. ومع ذلك، فإنه مع بدء تشكيل مناطق خفض التصعيد، اتخذت الانقسامات في صفوف المعارضة السورية منحى يتعذر التراجع عنه، وبدأ ظهور مسألة فرض حماية خارجية على مناطق بعينها داخل البلاد.
وفي ظل الظروف الراهنة، سيصبح حق البقاء حكراً على مناطق خفض التصعيد التي ترتبط بحدود دولية وتلك الخاضعة لحماية خارجية - أي المنطقة الجنوبية وإدلب. في الوقت ذاته، سيعتمد بقاء هذه المناطق بدرجة كبيرة على مدى استعداد الولايات المتحدة والأردن وتركيا تجاه اتخاذ خطوات حقيقية، وصولاً إلى استخدام القوة، للحيلولة دون سيطرة قوات حكومية على مناطق خفض التصعيد تلك. ومع هذا، ستبقى هذه مناطق خفض تصعيد مختلفة جوهرياً من حيث المعنى والشكل عن المشروع الأصلي.
ومع هذا، ورغم حقيقة أن روسيا وإيران وتركيا كانت (بدرجات متباينة) الجهات المستفيدة الأساسية من تفعيل مناطق خفض التصعيد، فإن الدول الثلاث تواجه معضلة مهمة. من ناحية، يمكن النظر إلى مبادرة مناطق خفض التصعيد باعتبار أنه عفا عليها الدهر. من ناحية أخرى، فإن إلغاء مناطق خفض التصعيد سيعد بمثابة اعتراف من جانب الدول الراعية بعجزها عن إعادة دفع عجلة عملية السلام، إضافة إلى إثارة الشكوك بخصوص شرعية أفعال، بل ووجود بعضها داخل سوريا، خاصة تركيا.
جدير بالذكر أن محادثات آستانة أقرت كمنتدى لمناقشة قضايا عسكرية، وبدأت آستانة بالفعل عام 2017 - 2018 في استنزاف إمكاناتها. وعليه، من الواضح أن آستانة بحاجة إلى محتوى جديد، ربما من خلال التحول من منتدى عسكري إلى آخر سياسي. ومع أن ثمة مفاوضات جرت بالفعل حول تقسيم البلاد إلى مناطق نفوذ فيما بين روسيا وإيران وتركيا، فإن هذه الدول لا تزال بعيدة تماماً عن الوصول إلى تسوية بخصوص مستقبل سوريا فيما بعد الحرب. علاوة على ذلك، فإن التأكيد على الجوانب السياسية سيؤدي إلى تحول آستانة إلى جنيف بديلة، الأمر الذي أعلنت الدول الراعية عدم قبول حدوثه.
ورغم ذلك، تبقى رغبة الدول الثلاث في إملاء الأجندة السياسية واضحة. وينطبق هذا القول على نحو خاص على تركيا وإيران وروسيا فيما يخص تشكيل لجنة لمناقشة وضع دستور جديد للبلاد، الأمر الذي وافقت عليه الدول الثلاث عشية انعقاد مؤتمر الشعب السوري في سوتشي. ومع هذا، يبقى مصير هذه المبادرة على صلة مباشرة بالقدرة على عقد حوار مع المعارضة السورية المسلحة والتوصل لاتفاق سياسي ينص على إقرار كامل لوقف إطلاق النار.
على الجانب الآخر، فإنه على امتداد عملية آستانة، أضفت مشاركة ممثلين عن فضائل معارضة مسلحة كبرى، مثل «جيش الإسلام» بقيادة محمد علوش، شرعية على العملية. إلا أنه مع تمكن العملية العسكرية التي شنها الجيش النظامي في سحق هذه المنطقة المتعلقة بخفض التصعيد، والتي تركزت بها قوات هذه الجماعة بصورة أساسية، فإن ذلك يثير الشكوك حول إمكانية استمرار مشاركة ليس «جيش الإسلام» فحسب، وإنما غالبية الفصائل المعارضة المسلحة، في العملية.
في ظل كل هذه التطورات، تفاقمت مشاعر الريبة والتشكك إزاء الدول الراعية، خاصة روسيا، التي شاركت بنشاط في العملية العسكرية التي شنتها قوات حكومية في الغوطة الشرقية، ووفرت دعماً جوياً لها. وعليه، فإن هذا المنتدى يواجه مخاطرة فقدان أي معنى حقيقي له. ويفرض ذلك على الدول الراعية، خاصة روسيا وتركيا، البحث عن آليات أخرى قادرة على ضمان مصالح المعارضة السورية.
ومع ذلك، لن يكون من السهل تحقيق ذلك. بعد الاستيلاء على الغوطة الشرقية واستسلام القلمون الشرقية، من الواضح أن مشكلة منطقة خفض التصعيد في حمص ستحل. وعليه، فإنه تبعاً لمصادر من داخل معسكر المعارضة، بدأ مراقبون عسكريون روس بالفعل في ترك مواقعهم في درعا بدءاً من 27 أبريل (نيسان). ويعد هذا مؤشر مثير للقلق على نحو بالغ، ربما يوحي بأن دمشق على وشك الشروع في عملية جديدة جنوب البلاد. وربما يسفر ذلك بدوره عن جولة جديدة من التصعيد داخل سوريا، لكن بمشاركة الولايات المتحدة وإسرائيل هذه المرة.
*بروفسور مساعد بكلية الاقتصاد التابعة للجامعة البحثية العليا ــ موسكو
*رئيس مركز الدراسات الإسلامية التابع لمعهد التنمية المبتكرة
*خاص بـ«الشرق الأوسط»
9:8 دقيقة
TT
سر إخفاق مناطق «خفض التصعيد» في سوريا
المزيد من مقالات الرأي
لم تشترك بعد
انشئ حساباً خاصاً بك لتحصل على أخبار مخصصة لك ولتتمتع بخاصية حفظ المقالات وتتلقى نشراتنا البريدية المتنوعة