د. آمال موسى
أستاذة جامعية مختصة في علم الاجتماع، وشاعرة في رصيدها سبع مجموعات شعرية، ومتحصلة على جوائز مرموقة عدة. كما أن لها إصدارات في البحث الاجتماعي حول سوسيولوجيا الدين والتدين وظاهرة الإسلام السياسي. وهي حالياً تشغل منصب وزيرة الأسرة والمرأة والطفولة وكبار السن في الحكومة التونسية.
TT

القطرة التي أفاضت كأس 2017

خمسة أيام فقط تفصلنا عن نهاية هذه السنة، حيث تتجمع أمامنا أهم الأحداث التي عاشها العالم، فإذا بالتوترات تهيمن على شاشة سنة 2017 جاعلة من التأزم عنواناً كبيراً لغالبية الأحداث.
اللافت للانتباه أن الشهر الأخير من هذه السنة التي لا تزال جارية لم يكن هادئاً، ويمكن القول إنه قدم للعام المقبل عناوين توترات مقبلة، أو لنقل حدد طبيعة الأزمات التي ستسيطر على العالم.
بالنسبة إلى البلدان العربية، فإن هذه السنة كانت صعبة وكانت سنة الحرب على الإرهاب، حيث عرفت دول عربية مثل مصر والمملكة العربية السعودية أحداثاً إرهابية هزت المنطقة. غير أنه في الوقت نفسه فإن تنظيم داعش قد كُسرت شوكته وهو يلفظ أنفاسه الأخيرة بعد حرب ضروس معه دامت سنوات وأدخلت منطقة الشرق الأوسط في كابوس طويل مظلم.
يمكن القول إن سنة 2017 أكثر السنوات حزماً في التصدي للتنظيمات الإرهابية، وقد استطاعت دول عربية كثيرة توحيد موقفها واستراتيجيتها لمواجهة هذه التنظيمات.
كما أنه في منتصف هذه السنة اشتد التوتر في منطقة الخليج إلى درجة التأزم بين بلدان المنطقة ودولة قطر، وذلك لأسباب تتعلق بمسألة الإرهاب والتباين في تصنيف التنظيمات بين إرهابية وغير إرهابية، وها هي أشهر طويلة نسبياً قد مرت على هذه الأزمة ولم تعرف طريقها للحل.
إن عام 2017 تعقدت فيه الخلافات وأصبح «المعسكر» الإيراني وأزلامه أكثر علانية ومباشراتية في تحركه في منطقة الشرق الأوسط، خصوصاً في دولة اليمن التي تأزمت أوضاعها وبلغت فيها الحرب الأهلية درجة مأساوية، وما زالت مأساة اليمن وتورطه في مستنقع العنف مفتوحتين على سيناريوهات أكثر دموية وعدمية وخراب.
لنأتِ الآن إلى القطرة التي أفاضت كأس 2017: اعتراف الرئيس الأميركي دونالد ترمب بالقدس عاصمة لدولة إسرائيل، وهو الإعلان الذي شاء أن ينهي به هذا العام، فكان بمثابة الاستفزاز لمشاعر المجتمعات العربية والإسلامية. بل إن هذا الإعلان حمل لنا صورة مسبقة عن طبيعة التوترات التي ستكون في العام المقبل. فالنزاع الفلسطيني الإسرائيلي سيعود إلى سالف عنفه باعتبار أن هذا الإعلان وضع نهاية سيئة ومحبطة لمسار المفاوضات والحل السياسي.
من جهة ثانية، بعد أن عرفت بداية العام ومنتصفه خفوتاً للإسلام السياسي والتنظيمات التكفيرية، من المتوقع أن يعرفا انتعاشة جديدة بسبب إعلان القدس عاصمة إسرائيل. والمشكل الأكبر أن خطاب التعقل والحوار والمفاوضات قد عرف ضربة رمزية قوية، في حين أن ما يسمى دول الممانعة بدأت تخطط لكيفية الاستفادة من تداعيات هذا القرار وما يستبطنه من ضرب للمقدس والهوية. والخشية أن هذا القرار أعد الحطب اللازم كي تشتعل التوترات في العالم الإسلامي على نحو يصعب التحكم فيه لأن حجة العقلاء ستكون حينئذ ضعيفة وغير مسموعة.
يمكن القول إن الأطروحات التي بشرت بأن هذا القرن هو قرن الحروب الثقافية حققت نجاحاً كبيراً بعد استيلاء إسرائيل على القدس عاصمة لها، وبداية من 2018 ستتأكد هذه الأطروحات، وسيقف العالم على عنف الحرب الثقافية التي تقوم على استفزاز الهوياتي الثقافي التاريخي، أي أن التوترات التي بدأت منذ سنوات طويلة ستكتب عنوانها بالبنط العريض بداية من هذه السنة والسنة المقبلة.
من الواضح أن الفوضى ستكون مهيمنة في العام المقبل، حيث الديني الثقافي سيأخذنا إلى قيم العصبية وسيكون لهذا تداعيات اقتصادية كبيرة في بلداننا العربية، وبالكاد تستطيع كل دولة من دولنا إدارة شؤونها الخاصة، في حين أن القضايا المطروحة تستوجب الالتفاف العربي والإسلامي، وهو ما يبدو صعباً بعد سلسلة الإخفاقات التي عرفتها المنطقة في السنوات الماضية أو لنقل منذ حرب الخليج الأولى إلى اليوم.
إن إعلان الولايات المتحدة القدس عاصمة لإسرائيل إذا لم يعدل بإعلان القدس الشرقية عاصمة لفلسطين وتبني حل الدولتين، فإن النزاع سيشتد وقد تعرف خريطة التوترات انفلاتاً غير مسبوق.
هناك نوع من الرهبة من العام المقبل: الاقتصادات في أكثر من بلد عربي منهكة والمشكلات متراكمة والصراعات سيدة الحراك. حتى التحالفات بدأت تتغير وتقوى بين أطراف وتضعف بين أطراف أخرى.
لقد بدأ العالم يعلن عن تغيره بقوة: وجه العالم بدأ يتبدل وعلاقاته وقيمه، وسيكتمل التغير عندما تسفر الأزمات والصراعات عن موازين قوى جديدة وحقائق جديدة، وربما أكاذيب جديدة أيضاً، لأن عملية التغيير التي يمر بها العالم تقودها عقول ليست كلها عاقلة ومتفانية من أجل السلام وحقوق الإنسان.
إن القدس هي القطرة التي أفاضت كأس عام 2017 وقوَّت مشاعر الاحتقان، وأغلب الظن أنها ستكون القطرة التي سيغرق فيها كثيرون.