كتب على شاكلة «أرض البشر» لأكزوبيري، «رحلات جوليفر» لسويفت، «روبنسون كروزو» لديفو، كانت حاجزا بيني وبين أن أنفجر. كنا ممنوعين من السفر، فأبي من قطاع غزة، والفلسطينيون الذين دخلوا سوريا بعد 1967«مكتومون»، أي أنهم محرومون من الحقوق المدنية، وعلى رأسها حق الحصول على الأوراق الثبوتية، وحق العمل، والتملك، والسفر. كان السفر هاجسي وحلمي الذي كنت أعوضه بالقراءة، (عوضته لاحقا بعد وصولي إلى السويد بطريقة مرعبة؛ حيث تحولت، كما يقول أصدقائي سندباد وابن بطوطة معا). قبل ذلك، كنت قد سافرت مع أكزوبيري في صحراء ليبيا، عبرت الواحات، قطعت معه الجبال المغطاة بالثلوج، لمست الغيم بأصابعي حين كنا نحلق بطائرته فوق المحيط، لقد كان صديقا جيدا.
في نهاية مراهقتي، قرأت «الآن، هنا، أو شرق المتوسط مرة أخرى» لمنيف، ليتني لم أقرأها، بقيت صامتا لأيام، واختفت شهيتي للأكل، ظن أهلي أنني عاشق، لقد كانت تجربتي الأولى في السجن، أنا الذي لم يسجن قط في حياته، جرني منيف من يدي إلى السجن، بدأت أخطط كيف سأهرب، كيف سأحتمل التعذيب في الجلسة القادمة، قتلتني هذه الرواية، ولم أعد مراهقا بعدها. لاحقا قرأت كثيرا من أدب السجون، وتحدثت مطولا مع الشاعر السوري فرج بيرقدار في سهراتنا في ستوكهولم عن تجربته، صدمني كيف حافظ على إنسانيته بعد 14 عاما في السجن، استعدت من خلال أحاديثنا أغلب ما فقدته بعد قراءة تلك الرواية، لكن شيئا مبهما كان قد تهشم في داخلي، ولم أستطع إصلاحه، شيئا لم أعد أذكر ماهيته بالضبط.
حقيقة، لا أعرف تماما متى بدأت قراءة الكتب، ذلك أنني بدأت في مرحلة مبكرة جدا، فقد ولدت ابنا لكاتب، الكتب بكل جزء من المنزل، مصفوفة أمامي في المكتبة، فوق بعضها البعض على الطاولة، مرمية على الأرض، كيفما التفت في المنزل ترى كتبا. أبي دائم القراءة، أقلده بغريزة الأطفال الذين في فترة مبكرة من العمر يقلدون الكبار. لكن شيئا واحدا من تلك الفترة ظل عالقا في ذاكرتي، متشبثا بها لسبب مجهول، ذلك حين أمسك طفل في التاسعة من عمره (كان أنا)، «وداعا للإسكندرية التي تفقدها» لكافافي، لا أذكر الانطباعات الأولية، لا أتذكر أي شيء إطلاقا، لكنني أجزم أنها كانت تجربة فريدة، فريدة جدا، فريدة لدرجة أنني أصبحت شاعرا.
* شاعر فلسطيني. صدر له أخيرا «لا أستطيع الحضور».