اتصف وزير الخارجية الأميركي ريكس تيلرسون بالرجل الصامت ضمن فريق السياسة الخارجية للرئيس دونالد ترمب. ولكن بعيدا عن الأضواء السياسية، يبدو أنه يضع استراتيجية واسعة النطاق تهدف إلى العمل مع الصين بغية تسوية أزمة كوريا الشمالية ومع روسيا لتحقيق الاستقرار في كل من سوريا وأوكرانيا.
ويركز مسار السيد تيلرسون على الدبلوماسية الشخصية، عبر الاتصالات المباشرة مع القادة الصينيين والروس، ومن خلال القنوات الخاصة إلى كوريا الشمالية. ويتمثل الافتراض الاستراتيجي الأساسي للسيد تيلرسون في أنه إذا تمكنت الولايات المتحدة من إدارة علاقاتها مع الرئيس الصيني شي جينبينغ والرئيس الروسي فلاديمير بوتين - والسماح بنسب قدر من الفضل لهذين القائدين إقراراً بنجاحاتهما في مضمار السياسات الخارجية - فسوف يسهل نوعا ما تسوية المشاكل الإقليمية على نحو فعال.
ويبدو السيد تيلرسون غير منزعج من الانتقادات التي اتهمته بأنه محاور غير قدير، ومن واقع الحديث الأخير عن خلافات في وجهات النظر مع الرئيس ترمب. وأسلوبه لا يدور بالضبط حول «تول هذه المهمة وانتهِ منها على ما يرام»، ولكن كرئيس تنفيذي أسبق لشركة إكسون موبيل العملاقة، فإنه لا يحتاج إلى جني الأموال أو كسب المزيد من الأصدقاء في واشنطن - كما يعتقد وبوضوح أنه يحمل المزيد من الالتزامات الملحة بأكثر من حاجته للتعامل مع الصحافة.
يبدو أن السيد تيلرسون قد حافظ على علاقة عمل جيدة مع السيد ترمب، على الرغم من النأي بنفسه بعيدا عن تعليقات الرئيس المثيرة دوما للجدل في أعقاب اضطرابات شارلوتسفيل الأخيرة. وعلى الرغم من أن السيد ترمب لم يرق له بيان السيد تيلرسون، إذ قيل إنه قد راق له الأمر في خاتمة المطاف.
وأزمة كوريا الشمالية هي أفضل الأمثلة على دبلوماسية السيد تيلرسون. وبالنسبة لكافة ردود الأفعال المتباينة التي تفجرها تغريدات الرئيس الأميركي، فإن لُب السياسة الخارجية الأميركية يتمحور حول جهود العمل المشترك مع الصين، لعكس مسار الحشد النووي لكوريا الشمالية من خلال المفاوضات. ولقد لمح السيد تيلرسون بأن الولايات المتحدة على استعداد لإجراء المحادثات المباشرة مع نظام كيم جونغ أون - ربما في وقت قريب - إذا ما أظهر الزعيم الكوري الشمالي قدراً معتبراً من ضبط النفس. ويرغب السيد تيلرسون في وقوف الصين خلف الزعيم الكوري على مائدة المفاوضات مع يديها التي تحكم فيها الوثاق حول عنق الرجل.
وعلى الرغم من خطاب بيونغ يانغ المفرط في العداء، فإن ممثلي النظام قد أعربوا عن اهتمام حكومة بلادهم بالمفاوضات، وطالبوا ببعض الاستفسارات بشأن المواقف الأميركية. ولكن تصرفات السيد كيم كانت غير منتظمة ومسببة للمزيد من الحيرة والارتباك، وعندما ظهر أن الجانب الكوري الشمالي يرغب في نسب بعض الفضل لذاته لعدم إطلاق الصواريخ الباليستية باتجاه غوام، عرض السيد تيلرسون التصريح ببيان كهذا على نحو علني. ومما يدعو إلى الاستغراب الشديد، ردت كوريا الشمالية على ذلك البيان بإجراء ثلاثة اختبارات نووية جديدة في رد فعل متهور وغير مسؤول من جانبها.
ويرى بعض المحللين أن سباق كوريا الشمالية لاختبار الصواريخ والأسلحة ليس إلا محاولة لتحضير أقوى موقف ممكن استعدادا للمفاوضات قبل البدء فيها فعليا. ويبدو أن السيد تيلرسون يراهن على مقدرة الصين في إجبار كوريا الشمالية على حضور هذه المفاوضات بفرض الحظر النفطي على بيونغ يانغ. ويأمل المسؤولون الأميركيون في أن يأخذ الرئيس الصيني هذه الخطوة من جانب واحد، مما يعكس القيادة الصينية القوية أمام الرأي العام، بدلا من انتظار الولايات المتحدة لإدراج مقترح الحظر النفطي عبر قرار أممي جديد صادر عن مجلس الأمن الدولي.
كما لمح السيد تيلرسون إلى جديته حيال المحادثات مع كوريا خلال زيارة أجراها في مارس (آذار) الماضي إلى المنطقة منزوعة السلاح في شبه الجزيرة الكورية. وأشار إلى طاولة في مكتب الأمم المتحدة هناك وعلق قائلا: «ربما قد نستخدم هذا مرة أخرى»، إذا ما بدأت المفاوضات.
كان الحوار الصيني الأميركي بشأن كوريا الشمالية أوسع نطاقا بأكثر مما أعلنت عنه بكين وواشنطن. فلقد نوقشت الجهود المشتركة لتحقيق الاستقرار في شبه الجزيرة الكورية، بما في ذلك التدابير الصينية لتأمين الأسلحة النووية في حالة انهيار النظام الحاكم في بيونغ يانغ.
والفكرة الرئيسية المحركة لسياسة السيد تيلرسون إزاء الصين تدور حول أسس العلاقات التي تغيرت وبشدة، مع تزايد القوة والحزم الصينيين على الصعيد الدولي. والرسالة المبعوث بها إلى بكين مفادها أن إجراءات الرئيس الصيني تساهم في نزع فتيل الأزمة الكورية الشمالية، كما تساهم في تشكيل وجه العلاقات الأميركية الصينية خلال الخمسين عاما المقبلة.
ويواصل السيد تيلرسون عمله على الملف الروسي، حتى في ظل العقوبات الاقتصادية المفروضة على موسكو. تعود علاقة السيد تيلرسون بالرئيس الروسي إلى عام 1999، ويرى أنه زعيم سياسي يمكن التنبؤ بتصرفاته، حتى وإن كانت من قبيل البلطجة السياسية في بعض الأحيان. حتى وإن كانت العلاقة الرسمية تشوبها الكثير من الشوائب، يعتقد السيد تيلرسون أن يحرز بعض التقدم «الهادئ» على الملفين الأوكراني والسوري.
فمن ناحية أوكرانيا، يؤيد السيد تيلرسون المقترح الروسي بإرسال قوات حفظ السلام التابعة للأمم المتحدة، للإشراف على ما يزعم الرئيس بوتين أنه عدوان الرئيس الأوكراني بترو بوروشينكو على القوات المدعومة من موسكو في شرقي أوكرانيا. وإدخال مراقبي الأمم المتحدة من شأنه أن يساعد في تنفيذ اتفاق مينسك، حتى مع إحراز الرئيس بوتين للفضل وحصول الرئيس الأوكراني على اللوم في ذلك.
وعلى الصعيد السوري، حذر السيد تيلرسون الرئيس الروسي من أن المخاطر الحقيقية على المصالح الروسية تكمن في زيادة القوة الإيرانية هناك، ولا سيما مع استعادة نظام بشار الأسد السيطرة على محافظة دير الزور في شرقي البلاد. ولمواجهة الإيرانيين، يؤيد السيد تيلرسون اتخاذ الخطوات السريعة من قبل قوات سوريا الديمقراطية المدعومة من الولايات المتحدة للاستيلاء على وادي الفرات السفلي.
وتصرفات السيد ترمب الصاخبة، وأحيانا المثيرة للمزيد من الإزعاج، وموقف السيد تيلرسون المتحفظ، كلها تعبر عن مزيج غير محتمل، والكثير من المراقبين يشككون في إمكانية استمرار هذه العلاقة. ولكن السيد تيلرسون يبدو أنه يتكيف مع الصعوبات - ومع التغريدات. وعندما يخرج عن الرئيس ترمب تعليق مضطرب، يحاول السيد تيلرسون تناوله كجزء من المشهد السياسي العام - ويفكر في كيفية الاستفادة منه لصالح السياسة الخارجية.
وقد يكون السيد تيلرسون هو أقل وزير لخارجية الولايات المتحدة اهتماماً بالظهور العلني في تاريخ البلاد، بيد أن ذلك ينم عن اختيار شخصي منه. ووفقاً لمعايير واشنطن، فإنه غير مهتم وبشكل مثير للاستغراب بنسب الفضل إلى نفسه.
* خدمة: «واشنطن بوست»
