سمير عطا الله
كاتب عربي من لبنان، بدأ العمل في جريدة «النهار»، ويكتب عموده اليومي في صحيفة «الشرق الأوسط» منذ 1987. أمضى نحو أربعة عقود في باريس ولندن وأميركا الشمالية. له مؤلفات في الرواية والتاريخ والسفر؛ منها «قافلة الحبر» و«جنرالات الشرق» و«يمنى» و«ليلة رأس السنة في جزيرة دوس سانتوس».
TT

شجرة سدر تنحني

بعض الرجال يتجاوزون حدود بلدانهم في حضورهم وفي غيابهم. برجس البرجس كان كويتيا هائما ببلده وعربيا مشغوفا بأمته. عامل الكويت كأنها ابنته الصغرى، وتعامل مع العالم العربي كأنه أمه المقعدة. لا شيء في حياته كان أمرا عاديا. كل شيء هو قصته وكل قضية هي قضيته أولا. يغار لها كأنها بلا صاحب ويغار عليها كأنه صاحبها وحده.
عندما أصيب الكويتيون باليأس والكرب والكآبة لما حدث لهم على أيدي العراق ومناصريه، رفض أبو خالد هذه المرارة. صحيح أنه يحب الكويت أكثر من أي شيء آخر، لكنه يرفض أن يصدق أن الصَدَفة يمكن أن تنقض على الجوهرة. ظل عالمه العربي جميلا برغم ما أحيط به من مواويل الحزن وجنون العقوق.
كان رجلا عجيبا، أبا خالد. تعلم حياته من شجرة السدر الصابرة الصامدة التي جعلها عنوان مذكراته الراقية مثله. عندما أسس وكالة الأنباء الكويتية (كونا) قرر لها أن تكون مثل رويترز، لا مثل وكالة وطنية. انتقى لها كبار المراسلين والصحافيين ولم يمنحهم الرواتب العالية وحدها بل الرعاية العالية أيضا.
وعندما أصبح رئيسا للهلال الأحمر الكويتي شعرنا أن الصحافة العربية قد خسرت درعا من دروعها، لكنه خدعنا جميعا. فقد حول الخسارة إلى مكسب الهلال الأحمر. حمله ودار به على البلدان العربية من الجزائر إلى لبنان، يبني المستشفيات ويلاحق ويطارد كأن البنّائين تأخروا في إنجاز حديقة منزله. ومنزله كان ناديا ثقافيا عربيا له في كل بلد هم وحب وأصدقاء. وكان أبو خالد يعاتب الفلسطينيين والسوريين واللبنانيين على التقصير حيال قضاياهم كأنه الوكيل المكلف: «تعال، يا معود، اشن دعوى تسوون تشيدي ببلدكم، ما تستحون؟». لا شيء يمر عابرا. «أخوك برجس» يتصل بك إلى آخر الأرض لملاحقة موضوع مستشفى في طرابلس، أو مقال يبدو فيه يأسك عظيما: «يا معود لا تيئسون الشباب. هسه شو نسوّي. عَ مهلك أخوي. تكفي خوي، على مهلك».
يا لها من شخصية حانية رقراقة ومليئة بالمحبة والأمل. لا أدري إن كان أبو خالد يملك ما يصرف على «ديوانيته» لكن كان يعامل ضيوفه كأنهم شركاء لهم كامل الحقوق، وعليه وحده المسؤولية الأبوية. رفاقه في الكويت وأصدقاؤه وجلساؤه، يعرفون ماذا أعني. ويعرفون أن أحدا مهما أوتي من اللغة، لن يجد ما يصف به أبا خالد ذلك الصادق الذي رفض أن يصدق كل ما رأى من كذب ومن زور ومن ضلال عربي. ظل حتى اليوم الأخير هانئ النفس في فيء شجرة السدر. السلام عليك، يا معود.