سمير عطا الله
كاتب عربي من لبنان، بدأ العمل في جريدة «النهار»، ويكتب عموده اليومي في صحيفة «الشرق الأوسط» منذ 1987. أمضى نحو أربعة عقود في باريس ولندن وأميركا الشمالية. له مؤلفات في الرواية والتاريخ والسفر؛ منها «قافلة الحبر» و«جنرالات الشرق» و«يمنى» و«ليلة رأس السنة في جزيرة دوس سانتوس».
TT

القيس وناجي وأبي ماضي

ذات يوم، أطل سعيد فريحة من شرفة مكتبه في الحازمية، فأذهله منظر البساتين والأشجار والخضرة، وفتح صدره للهواء النقي، لكنه تمنى للمنطقة شيئاً من الحيوية والحياة، تزدهر به وتتقدم. كان ذلك قبل نصف قرن. وقد بالغتْ الأمنية في التحقق، فلم يعد في الحازمية شجرة ولا بستان ولا خضرة ولا هواء نقي.
بشر وسيارات وزحمات وزعيق: «شو الطريق مِلك بيت بيَّك»؟ هل تشعر بحنين إلى حازمية البساتين أم تفضلها مكاناً يتسع لزيادة السكان وازدهار التجارة؟ نجمة السينما الفرنسية جان مورو، التي غابت عن 89 عاماً، كانت تعترض بحدة شديدة على كل ما هو «نوستالجيا» أو حنين إلى الماضي، قائلة إن الأهم هو الحياة التي نعيشها، لا التي مضت، مرددة المثل الفرنسي: «أمس والعصر الحجري سيان».
لكن هل يمكن للمستقبل دائماً أن يحمل ما قدَّمه الماضي؟ طفولة أخرى؟ شباباً آخر؟ شرفة مقابلة أخرى عليها ورد وزهر، وبينهما ياسمينة لا تدري ماذا يفعل عطرها الذي تحمله الأنسام بالمسام؟ كان سعيد تقي الدين يقول «إن الصداقة من انتصارات الحياة». هناك مرحلة عمرية ما تنمو فيها الصداقات، تماماً مثل الشجر: القوة في الريعان، والتوطد في الامتحان.
لا بد من الاعتذار من «رؤية» جان مورو للحياة. فالماضي هو حياتنا أيضاً، وهو ذكرياتنا، سواء كان ياسمينة على شرفة، أو شجرة غليظة تقلعها عاصفة وترميها على دربك، فتقطع عليك الطريق وعلى غيرك، وهي لا تدري، بل تعتقد أن المشكلة في الطريق!
لم أعد أذكر من قال إن الإنسان ليس سوى حزمة من الذكريات؛ «أطلال» كما سماها إبراهيم ناجي. ليست أطلال القلاع والحصون، بل تلك التي بدأ بها امرؤ القيس معلقات العرب «قفا نبك من ذكرى حبيب ومنزل»، غير أن «الطبيب» إبراهيم ناجي أرفقها بنصيحة «فتعلّم كيف تنسى/ وتعلّم كيف تمحو».
هاجر إيليا أبي ماضي من المحيدثة، التي كانت قرية بلا شارع أو ساحة، تعيش في وحل الشتاء وغبار الصيف، واستقر في نيويورك؛ أضواء وعربات وناطحات سحاب وألق اجتماعي ونجوم الأرض أكثر من نجوم السماء. وفيها، حقق الرفاه والشهرة، وصار اسمه يُذكر إلى جانب جبران خليل جبران وميخائيل نعيمة.
وعندما عاد إلى قرية الوحل والغبار وعواء الثعالب الجائعة، وقف يناجي أرض الطفولة وملاعب الصبا:
«وطن النجوم... أنا هنا.. حدّق، أتذكر من أنا؟ / ألمحتَ في الماضي البعيد / فتى غريراً أرعناً / جذلان يمرح في حقولك / كالنسيم مدندناً / أنا ذلك الولد الذي دنياه كانت ها هنا / أنا من مياهك قطرة / فاضت جداول من سنا / كم عانقت روحي رباك وصفقت في المنحنى».