سمير عطا الله
كاتب عربي من لبنان، بدأ العمل في جريدة «النهار»، ويكتب عموده اليومي في صحيفة «الشرق الأوسط» منذ 1987. أمضى نحو أربعة عقود في باريس ولندن وأميركا الشمالية. له مؤلفات في الرواية والتاريخ والسفر؛ منها «قافلة الحبر» و«جنرالات الشرق» و«يمنى» و«ليلة رأس السنة في جزيرة دوس سانتوس».
TT

السياب شيوعياً سابقاً

بعد ربع قرن على سقوط الشيوعية، ونصف قرن على وفاة بدر شاكر السياب، قررت «دار الجمل» المعروفة في ألمانيا، نشر مجموعة مقالات للشاعر صدرت العام 1959 في صحيفة «الحرية» البغدادية، تحت عنوان «كنت شيوعياً».
ما المناسبة؟ ربما يقال إن المراحل التاريخية لا تخضع للمناسبات. وبدر شاكر السياب شاعر كبير. وبالنسبة إليَّ هو شاعر رائع وحزين مثل موال بغدادي. إذن، ما المانع؟ أيضاً، بالنسبة إليَّ، المانع هو سمعة بدر ومكانته. فما يسميه الناشر «اعترافات» وكأن الشاعر ارتكب جريمة عقابها الاعتراف، هي في الحقيقة مجموعة مقالات سطحية، تعبر عن مرحلة مراهقة فكرية سطحية، وتتحدث عن مرحلة شخصية لا أهمية لها لأحد: لا لسيرة بدر، ولا لتاريخ الحزب الشيوعي، ولا لتاريخ العراق.
الناتج الوحيد أنها تصور شاعر العراق مراهقاً سياسياً يخوض معركة، فاتها الزمن، لكي يبرر انضمامه وخروجه من الحزب الشيوعي. «اعترافات» كُتبت بلغة غير لغة بدر، وتعابير غير تعابيره، وسقطات لا تليق به. مثلاً، يتجنب بدر الأسماء العَلَم عندما يكون الحديث عن شيوعيين مجهولين. ثم فجأة، يسمي عبد الوهاب البياتي لكي يهاجمه بمفردات درجت طويلاً تلك المرحلة بين الآيديولوجيين العرب. ونعرف أن البياتي كان شديد الحدة هو أيضاً، وكان يكره الجميع، وخصوصاً الشعراء، لكن عندما يحمل فأسه عليهم، كان يفضل المجالس الشفهية على التدوين الذي لا يمكن إمحاؤه.
يتبرأ بدر من حزب يتهمه بالصهيونية والعداء للقومية العربية. وهي التهم الأكثر سهولة وشيوعاً عند الآيديولوجيين وتلامذتهم. لكن تحويل النقد إلى حملة طويلة من ثلاثين حلقة، ترغم السياب على البحث عن تفاصيل لا معنى ولا أهمية لها، ومن ثم، الغرق فيها. ومن صفحة إلى أخرى، يقل الإعجاب ويزداد التعجب: هل يا ترى كاتب هذه السطور وصاحب هذه الكلمات هو «المالك الحزين» المرفرف فوق دجلة والفرات، وحامل أحزان وألوان جيكور؟
كل من مارس الكتابة، شعراً أو نثراً، له نتاج، يفضل نسيانه. لأن كل شاعر أو كاتب، مثل كل إنسان، له مراحل ضعف. وعندما يصبح الشاعر في حجم السياب، ماذا تفيد في عطائه مجموعة مقالات انتهى عصرها وزمنها ولهجتها ولغتها وتعابيرها؟
بصراحة، أنا حزين من أجل بدر. كانت صورته عندي أنه وُلد هو يغرف الشعر من الفرات، ويلوِّن أحزانه (الكثيرة) بمطر العراق. ولا تعني لي «اعترافاته» الحزبية شيئاً. فقد كانت حياته وشعره أعمق بكثير من خلافاته مع «الرفاق» السابقين، وخصوصاً أرقى من لغتها.