لطالما شكا الراحل محمد أركون من ضبابية مفهوم العلمانية بالترجمة إلى العربية، موضحاً أننا إذا قلنا laïcité بالفرنسية فإن المعنى للمفهوم أكثر إشعاعاً وسطوعاً ودلالةً من ترجمته إلى العربية بـ«العلمانية»، وآية ذلك أن المفهوم علاوةً على الضلال الآيديولوجي في تفسيره وحمولة الشحن بوجه العلمانية باعتبارها تسحق الدين وحضوره بالمجال العام، فإن مناحي أخرى من الدلالات لا تتضح كفايةً بالشرح العربي. فالمفهوم لا يضع الدين مقابل الدنيوة، بل وظيفة المفهوم متعددة، ومجالات فعله أكبر من تفاسير الفصل بين الدين والدنيا، بل يحمل فضاءً من الترتيب للمجال العام لتحريره من القيود التاريخية وجعل الحياة أكثر تشبّعاً بحضور الإنسان وازدهار واقعه، ليست وظيفة العلمانية أن تتدخل بأي تفسير ديني، ولا أن تصحح أي مفهوم عقائدي، بل يعمل على ترتيب واقعٍ أقل كارثيةً، بدليل أنه انبجس بعد عهودٍ من الحروب والنزاعات الأهلية وقصص الدماء.
ضمن هذا المجال ثار الآيديولوجيون على تصريحات السفير الإماراتي في واشنطن يوسف العتيبة والذي تحدث عن المفهوم ضمن إجابة عن المقاطعة مع قطر، معتبراً الدول التي تتجه نحو المستقبل ترنو إلى تعزيز العلمانية، بينما قطر تريد للعالم أن يبقى ضمن أغلال الماضي والإرهاب، وهو تصريح موفق وبالغ الدلالة، ذلك أن العلمانية صنو أي نموذج للتقدم، ويستحيل بناء دولة حديثة ضمن أسس تنموية، وصيغ حضارية، ومتانة اقتصادية من دون ترتيب الواقع العام وبناء مؤسسات فاعلة لها دورها الحيوي بتبويب شؤون المدينة وضبط المجالات من دون أن تتداخل مع بعضها بعضاً. وتصريح العتيبة أخذه المتربصون باعتباره زلةً، أو إدانة، بينما التصريح ينسجم والمستقبل التي تطمح إليه الدول، فالعلمانية ليست شتيمةً أو عيباً، بل هي شرط للنهضة الحضارية الشاملة، ولصناعة واقعٍ متعدد.
العلمانية أدق وأشمل من الفهم الضيق الذي أحاط بمفهومه، فلا يمكن شرح المفهوم ومعانيه وتجلياته من الشيخ محمد متولي الشعراوي، أو يوسف القرضاوي، أو محمد الغزالي، فأولئك لهم موقفهم الشخصي الحركي من العلمانيين باعتبارهم من نقاد تلك الأحزاب التي يقتات الراديكاليون عليها. الباحث المتميز بالمجال الفلسفي الزاواوي بغورة وفي دراسةٍ له حول مفهوم العلمانية لدى محمد أركون يعبر عن وظيفة المفهوم بطريقةٍ شارحة حين يكتب: عن معالم العلمانية: «المعلم الأول هو ارتباط العلمانية بالحداثة والعقلنة ونزع الغلالة السحرية عن العالم وتراجع النظرة أو الرؤية الدينية للعالم، وهو ما توقف عنده ماكس فيبر وبينه مارسال غوسيه، والمعلم الثاني هو ضرورة التمييز بين التقليد الأوروبي والأميركي في مفهوم العلمانية، وبخاصة في مسألة تحديد العلاقة بين الدين والسياسة، فمنذ القرن التاسع عشر بيّن ألكسي دو توكفيل أنّ ما يميز النظام الأميركي هو حضور الدين في المجتمع، بل يمكن القول إن الدين يُعدّ عاملاً أساسياً في التجربة السياسية الأميركية، ولكن ما يجب الإشارة إليه هو أنّ الدين في أميركا يعرف حدوده، أو يضع لنفسه حدوداً في علاقته بالسياسة وتدبير شؤون الدولة، وأنّ الروح الدينية لا تتعارض مع روح الحرية، والمعلم الثالث هو أنّ العلمانية قد اتخذت في أوروبا شكلين عامين؛ شكل العلمنة بواسطة الدولة ونموذجه الأكبر هو فرنسا ومعظم البلدان ذات الأغلبية الكاثوليكية، والعلمنة من خلال المجتمع المدني وميزت البلدان ذات الأغلبية البروتستانتية كألمانيا».
بنهاية المطاف فإن العلمانية مفهوم له سطوعه ضمن تطبيقاته في كل دولةٍ ضمن ثقافتها وإرثها وتاريخها، فهو ليس معنى مدرسياً، وهو أعم من التعريفات اللفظية المحفوظة، بل يتجلى ضمن مساحات تطبيقه، وضمن الواقع الذي يتحرك فيه. وتصريحات السفير الإماراتي جاءت ضمن سياق الرغبة الحقيقية لدول الاعتدال أن تتجه نحو المستقبل بكل إشراقه، بدلاً من خطط القتل والدم التي ترعاها قطر وإيران والحرس الثوري و«داعش» و«حزب الله» و«القاعدة»، لقد كان تصريحاً مضيئاً وبالغ الدلالة.
TT
العتيبة والعلمنة والصخب الآيديولوجي
المزيد من مقالات الرأي
لم تشترك بعد
انشئ حساباً خاصاً بك لتحصل على أخبار مخصصة لك ولتتمتع بخاصية حفظ المقالات وتتلقى نشراتنا البريدية المتنوعة