يوسف الديني
باحث سعودي ومستشار فكري. درس العلوم السياسية والإسلاميات التطبيقية، وعمل بالصحافة منذ عام 1999، وكاتب رأي في «الشرق الأوسط» منذ 2005، له كتب وبحوث ناقدة لجذور الإرهاب والتطرف والحركات والمنظمات الإرهابية في المنطقة. كتب عشرات الأبحاث المحكمة لمراكز بحثية دولية، ونشرت في كتب عن الإسلام السياسي والحاكمية والتطرف ومعضلة الإرهاب، وساهم بشكل فعال في العديد من المؤتمرات حول العالم.
TT

مقتدى الصدر... مر من هنا

منذ الإطاحة بنظام صدام حسين وما تبعه من انهيارات عميقة على المستوى الإقليمي وصعود الحضور الإيراني التركي في المنطقة في ظل بقاء الأنظمة العربية على الحياد دون التدخل في الشأن العراقي، عم قلق كبير على المستوى السياسي دافعه أمران؛ الأول عدم رضا على الطريقة التي تعاملت بها القوى الدولية مع مسألة العراق فيما يخص تهشم مفهوم الدولة وانهيار المؤسسات، والمعالجة النيئة والعجلة مع مسألة التحول السياسي في العراق عبر وكلاء المعارضة المرتبطين بطهران وتأسيس شكلانية ديمقراطية برافعة طائفية كان يظن في البداية أنها ردة فعل وليست استراتيجية فاقمت الأوضاع سوءاً ومنعت من تحسن الأوضاع كما هو الحال في التجارب العربية في التحولات على مستوى النظام السياسي، لا سيما في التغييرات التي تحمل طابع الإنزال المحلي أكثر من كونها تمثيلاً أميناً لمكونات الشعب وقواه وأحزابه السياسية.
نأت بغداد بنفسها لسنوات عن التماس مع الشأن العربي في الوقت التي زادت فيه الأزمات، وكالعادة حين تغيب السياسة يحضر العنف ومنطق الميليشيا والإرهاب فبزغ نجم «داعش» وزاد حضورها تعقيداً لمسألة المقاربة السياسية في الشأن العراقي وإيجاد صيغة توافقية لإعادة الإعمار وتقاسم السلطة على الرغم من بذل دول الجوار، وفي مقدمتها السعودية، جهوداً كبيرة على مستوى التواصل مع النخبة السياسية العراقية رغم المنعرجات الصعبة.
الأسابيع الماضية حملت مؤشرات إيجابية ومبشرة تدعو للتفاؤل بمستوى جديد بعد أن بادرت السعودية برسائل إيجابية تجاه الشأن العراقي بعد دعمها الكامل للتحالف الدولي في الحرب على «داعش» وتهنئتها القيادة العراقية على تحرير الموصل ثم فتح صفحة جديدة وبيضاء على مستوى العلاقة والتمثيل السياسي وفتح الحدود تبعها زيارة تاريخية للزعيم الشيعي مقتدى الصدر الذي صرح، وفقاً لبيان صدر من مكتبه، بـ«أننا استبشرنا خيرا فيما وجدنا انفراجاً إيجابياً في العلاقات السعودية - العراقية، ونأمل في أنها بداية الانكفاء وتقهقر الحدة الطائفية في المنطقة العربية الإسلامية».
أدركت الرياض منذ وقت مبكر أن الوقت حان لإقامة علاقات قوية مع النخب السياسية في العراق لاستيعاب مشروع عراق جديد قادر على حلّ مختلف النزاعات العرقية والطائفية، وبذلت محاولات جادة بدأت منذ أن التقى الراحل الملك عبد الله في أبريل (نيسان) 2010 عدداً من أهم الساسة العراقيين في الرياض، إضافة إلى لقاءات متعددة منذ ذلك العام مع رئيس حكومة إقليم كردستان مسعود بارزاني، والرئيس العراقي السابق جلال طالباني، ورئيس المجلس الأعلى الإسلامي في العراق عمار الحكيم، ووفد من التيار الصدري.
واليوم يضطلع الأمير محمد بن سلمان بمهمة كبيرة على مستوى دعم الاستقرار في المنطقة عبر إعادة الانخراط في الشأن الإقليمي برؤية جديدة عقلانية لاستيعاب التركيبة العراقية متعددة الطوائف وعزل هذا البلد العربي عن رهانات نظام طهران التي راهنت بشكل خاطئ ومتهور على تجاهل ثقل السعودية من خلال فترة حكومة المالكي التي كانت متحيّزة بشكل غير سياسي إلى لعب كارت الطائفية على رافعة مكافحة إرهاب «داعش»، وهو أمر كان يقلق السعوديين والعالم، لا سيما أن السعودية، في تأكيد أن المهم هو عودة العراق العربي إلى السياق الإقليمي الطبيعي، دعمت علاوي «الشيعي العلماني» الذي حصد تمثيلاً قوياً بين أوساط سنة العراق وفاز بـ91 من 325 مقعداً، وهو الأمر الذي أبطل مزاعم الطائفية التي عادة ما ترفع في أوقات الأزمات للتأثير على الحالة السياسية أكثر من كونها محدداً للهوية السياسية.
ولا شك أن هذه الزيارة تأتي عقب تحولات كبيرة في المنطقة، أبرزها تولي الإدارة الأميركية الجديدة مقاربة مختلفة فيما يخص تقليم أظافر إيران في المنطقة بعيداً عن تعقيدات الملف النووي والعقوبات، ولا شك أن العراق البلد الأكثر تأثراً بهذه الاستراتيجية الجديدة، ونتذكر هنا الزيارة التاريخية التي سبقت زيارة مقتدى الصدر التي قام بها رئيس الوزراء العراقي حيدر العبادي إلى السعودية، هي الأولى منذ تسلمه منصبه نهاية عام 2014 وبحث فيها مع خادم الحرمين الشريفين الملك سلمان بن عبد العزيز التنسيق بين البلدين في جميع المجالات، التي عبرت عن سياسة جديدة منفتحة رأى فيها الخبراء شجاعة سياسية منه قد تطال مستقبله السياسي في انتخابات 2018 لكنها من جهة أخرى قد تكون بوابة العودة إلى عراق متنوع في بلد يقف على رابع أكبر كثافة سكانية في الشرق الأوسط، ويملك خامس أكبر مخزونٍ نفطي في العالم.
الحفاظ على مكون الدولة في العراق مهمة صعبة لكنها غير مستحيلة متى ما انفتحت على دول الجوار والمجتمع الدولي، وفي الوقت نفسه بحاجة إلى فهم عميق من البلدان المتاخمة للعراق للمكونات السياسية، لا سيما المعارضة، وفهم أدق لعواقب انهيار الدولة، هذا الفهم والتفهم غائب في مواقع كثيرة بعد الربيع العربي ليس في العراق وإنما في مواقع متعددة لكنه الأخطر والأكثر قتامة في البلدان القائمة على تركيبة معقدة ومتنوعة عرقياً ودينياً وجهوياً، من السهل أن ينزلق منطق الدولة إلى عبثية الميليشيا، وتساهم المعارضة في تقويض الدولة ذاتها عبر شرهها السياسي.
دعم المعتدلين في العراق أولوية السعودية في هذه المرحلة، لا سيما بعد ولادة قناعة راسخة لدى القوى السياسية العراقية بما فيها الشيعة المعتدلون كالعبادي، أو ممن يشكلون قوة سياسية فاعلة كمقتدى الصدر، بأن سيطرة الميليشيات المدعومة من نظام طهران يعني نهاية عراق متعدد ومستقل سواء على مستوى المرجعية الدينية أو السيادة السياسية؛ في الأولى هناك ملف شائك حول مستقبل ما بعد سماحة السيد السيستاني وفي الثانية مستقبل الأكراد بعد لعبهم دوراً فاعلاً في المعركة ضد «داعش» وبينهما مستقبل القوى السنية التي يجب أن تأخذ حقها في المشاركة السياسية الفاعلة قطعاً على عودة «الإرهاب» مجدداً من الأبواب الخلفية لفشل التعددية التي هي قدر العراق ومستقبله.