د. عبد الله الردادي
يحمل الردادي شهادة الدكتوراه في الإدارة المالية من بريطانيا، كاتب أسبوعي في الصفحة الاقتصادية في صحيفة الشرق الأوسط منذ عام ٢٠١٧، عمل في القطاعين الحكومي والخاص، وحضر ضيفا في عدد من الندوات الثقافية والمقابلات التلفزيونية
TT

خصخصة المؤسسات الحكومية

بعد أن كانت الموضة السائدة في ثمانينات القرن الماضي، عادت خصخصة المؤسسات الحكومية من جديد لتكون حديث الساسة في السنوات القليلة الماضية. والخصخصة (أو ما قد يعبر عنه بالتخصيص) هي تحويل المؤسسات الحكومية إلى مؤسسات يديرها أو يملكها القطاع الخاص. اقترنت الخصخصة تاريخيا بالتغيرات السياسية والاقتصادية في البلدان، فبينما ارتبطت في أوروبا الشرقية بالتحول من الشيوعية إلى الرأسمالية، ارتبطت في العالم الغربي بالتحرر السياسي والتجديد في دستور البلدان.
ويُنظر إلى الرئيس الأميركي رونالد ريغان، ورئيسة الوزراء البريطانية مارغريت ثاتشر بصفتهما قائدي الخصخصة في الثمانينيات، ففي خلال تلك الفترة، تم تخصيص الكثير من المؤسسات الحكومية في البلدين أمثال شركات الاتصالات والسكك الحديدية وشركات الطاقة. ومع تفاوت معدلات النجاح في تلك المشاريع زادت صعوبة الجزم بنجاح مشاريع الخصخصة، إلا أن أهداف الخصخصة بشكل عام تكمن في ثلاث نقاط: تعنى أولها بالحكومة والثانية بالشركات والاقتصاد المحلي، والثالثة بالأداء.
في النطاق الحكومي، تعد بعض المؤسسات الحكومية عبئا على الحكومة، باستنزافها المال العام وموارد الدولة مما قد يسبب عجزا في الميزانية، وتنظر بعض الحكومات إلى تخصيص بعض مؤسساتها بصفتها حلا لهذا الاستنزاف، وقد تكون الخصخصة سببا في تحول هذه المؤسسات إلى مصدر دخل للدولة، وذلك إما عن طريق بيع هذه المؤسسات بالكامل للقطاع الخاص، أو بمنحها كعقد استثماري لمدة محدودة. قبل الخصخصة؛ تتحمل الحكومة المسؤولية الكاملة في كتابة وتنقيح هذه العقود، فبحسب الأبحاث، تعد العقود الناقصة أو غير المتكاملة السبب الرئيس في فشل مشاريع الخصخصة. ويحصل ذلك كثيرا بسبب قدرة القطاع الخاص - بموارده الوافرة - على إيجاد ثغرات في العقود المكتوبة تمكنه من تجاوز بعض الشروط بهدف توفير التكاليف. أما بعد الخصخصة فتكتفي الحكومة بدورها الرقابي للتأكد من التزام القطاع الخاص بشروط العقد المبرم لتشغيل هذه المؤسسة.
وعلى مستوى الشركات، فإن البدء بخصخصة المؤسسات الحكومية يعد دعما للقطاع الخاص وتوفيرا لكثير من المشاريع الاستثمارية غير التقليدية، ومنها يستطيع القطاع الخاص النهوض بنوعية جديدة من المشاريع المتينة طويلة المدى، لا تتشابه مع المشاريع التقليدية السائدة، والتي ترتبط كثيرا بنمط الحياة السائد والمتغير. إلا أن أولى المشاكل التي تواجهها هذه الشركات، هي التعامل مع أعداد الموظفين في الدوائر الحكومية، وهو سبب يعطل الكثير من مشاريع الخصخصة، فبينما يرغب القطاع الخاص في تسريح بعض الموظفين بحكم عدم الحاجة إليهم، ترفض الحكومة هذا التسريح من دافع مسؤولية تجاه المواطنين، وحتى لا تزيد معدلات البطالة في البلد. وآخر ما ترغب فيه الحكومات، هو حل مشكلة بإيجاد مشكلة أخرى.
الهدف الأخير من الخصخصة هو تحسين الأداء، أو زيادة الفاعلية كما يعبر عنه، وهو من أكثر النقاط المختلف عليها. فالنظرة العامة للمؤسسات الحكومية أن فعاليتها ضعيفة، وأن عدد الموظفين أكثر من اللازم، وأن انعدام الارتباط بين المردود المادي وأداء المديرين يضعف من إنتاجية هذه المؤسسات. وقد تكون هذه النظرة صحيحة إلى حد ما. إلا أن حساب الفعالية ومؤشرات قياس الأداء تختلف كليا بحسب القطاع أو بحسب وجهة النظر. وبينما يكون الحكم على بعض القطاعات سهلا، مثلا قطاع الاتصالات أو الطاقة. تزيد صعوبة هذا القرار في القطاعات المؤثرة مثل المواصلات أو التعليم أو الصحة. والاختلاف هنا بأن الهدف الأساسي من هذه القطاعات هو الخدمة الاجتماعية، وإدخال عنصر الربحية بصفته مؤشرا لقياس الأداء يتنافى كليا مع الهدف من هذا القطاع. إلا أن الجزم بفائدة خصخصة قطاع كامل من عدمها غير صحيحة، فحتى بين إدارات مؤسسة واحدة، تتفاوت صعوبة خصخصة بعض الإدارات عن بعضها الآخر.
الحكم بالإطلاق بأن خصخصة المؤسسات الحكومية هو الخيار الصحيح أو كما يشاع «الخصخصة هي الحل» ليس صحيحا البتة، فأهداف المؤسسات الحكومية تتفاوت بين هدف سياسي أو اقتصادي أو اجتماعي، والحكومة قد ترضى بالخسارة في إحدى مؤسساتها لأنها تدرك أن الربح ليس هدفا من وراء هذه المؤسسة، في حين لن يرضى القطاع الخاص بالخسارة إطلاقا. وحتى المقارنة بين الدول المطبقة للتخصيص قد لا يعطي القرار الحاسم بهذا، فالولايات المتحدة وبريطانيا تشابهتا في تخصيص الاتصالات والمواصلات والطاقة، إلا أن بريطانيا لم تخصص الصحة كما فعلت أميركا (حتى مع وجود بريطانيين مؤيدين لخصخصة الصحة). وهو ما يؤكد أن الخصخصة قرار يعتمد على عوامل تختلف باختلاف القطاع وطبيعة البلد وثقافتها وأهداف وسياسة الحكومة.