وليد أبي مرشد
صحافيّ وكاتب وخبير اقتصادي لبنانيّ
TT

من كعكة حلوى إلى برميل بارود

نقلت روايات تاريخية عن إمبراطور فرنسا، نابليون بونابرت، وصفه في القرن الثامن عشر لدولة بولندا بأنّها «كعكة الحلوى الأوروبية»، فلا حروب تنشب بين دول أوروبا الكبرى آنذاك دون أن تنتهي بتقاسم بولندا بين المنتصرين.
في الواقع، بقيت بولندا كعكة أوروبا الشهية حتى نهاية الحرب العالمية الثانية التي وضعت أوزارها بصفقة بين «الحلفاء» اقتطعت روسيا بموجبها جزءاً وافراً من شرق بولندا، عوّضها «الحلفاء» عنه بمنحها جزءاً مقابلاً من أراضي الخاسر الأكبر في الحرب؛ ألمانيا النازية.
لو كان نابليون بونابرت حياً في القرن العشرين، لربما عدّ الشرق الأوسط كعكة ذلك الزمن، خصوصاً أنّ تقاسمه بين بريطانيا وفرنسا في اتفاقية «سايكس - بيكو»، لم يأخذ في الاعتبار واقع المنطقة الجغرافي والديموغرافي بقدر ما أرضى «مذاق» الفرنسيين والبريطانيين؛ أي مصالحهما الاستراتيجية والاقتصادية.
قد لا يختلف اثنان على أنّ صفقة «سايكس - بيكو» - التي اكتملت فصولها بزجّ كيان دخيل على المنطقة عام 1948 - لم تحل مشكلة «تركة» الإمبراطورية العثمانية بقدر ما أسست لمشكلة «أكبر» بحكم تشتيتها شعب المنطقة على كيانات جغرافية هزيلة ومتناحرة معظم الأحيان، ما سهّل - إن لم يكن شجع - منافسة التيارات والحركات الطائفية والمذهبية للتوجه القومي لمجتمعات المنطقة، بدليل فشل التجربة القومية، المتمثلة في الجمهورية العربية المتحدة، في تجاوز خطوط اتفاقية «سايكس - بيكو» الجغرافية، و«نجاح» الحركة الدينية المتزمتة: «داعش» في إزالة هذه الخطوط بين سوريا والعراق... على الرّغم من الحرب الإقليمية والدولية التي شُنّت عليها.
إن جاز رد جذور تحول الشرق الأوسط من منطقة مستقرة بصورة عامة في القرن العشرين، إلى برميل بارود في الوقت الراهن، فلن يكون من المبالغة بشيء التصويب على عاملين رئيسيين: كيانات «سايكس - بيكو» الهزيلة، التي سَهُل تحولها إلى بيئة حاضنة للتيارات المذهبية وما تفرّع عنها من حركات تكفيرية، والكيان الصهيوني الذي «غض الطرف»، بدوره، عن انتعاش الحركات الدينية المتشدّدة وانتشارها في أوساط الفلسطينيين، في محاولة منه لشق الالتفاف القومي حول القضية الفلسطينية.
لا يجوز إعفاء أحزاب وحكام دول المشرق - أو الهلال الخصيب - من مسؤولية ترك أمور بلادهم تتردّى إلى هذا المستوى، كما أنّ من المنطقي الافتراض أنه لو لم يكن «المناخ النفسي» لمجتمعات المشرق العربي مهيأ، بمعطياته السياسية والثقافية، لتقبُل الدعوات التكفيرية، لما تحوّل إلى بيئة حاضنة لها. ولكن السؤال يبقى: ماذا استجد على مجتمع أطلّ على العالم، في غابر زمانه، بالخوارزمي وابن سينا وابن خلدون والفارابي... ليتصدر اليوم واجهته السياسية أمثال أيمن الظواهري وأبو بكر البغدادي؟
على هذا الصعيد، يجوز الحديث عن دور الغرب في نشوء حالة من الإحباط السياسي العام على مستوى كل تطلعات عرب المشرق القومية؛ بدءاً بآمال جيلهم الأول بوحدة تجمعهم، وانتهاء بحلم جيلهم الحاضر بتسوية مقبولة للقضية الفلسطينية.
من هذا المنظور، يعد انتشار الحركات التكفيرية، انسحاباً «مؤدلجاً» من ساحة النضال القومي العربي، وهو انسحاب يساهم، أكثر من سياسات الغرب، في إدامة حالة الإحباط العربي، وفتح الباب واسعاً لعودة «المستعمرين» إلى المنطقة.