عبدالله بن بجاد العتيبي
كاتب سعودي مهتم بالحركات الإسلامية والتغيرات في الدول العربية، وله عدة مؤلفات حول ذلك منها «ضد الربيع العربي» وله أبحاث منها: «القابلية للعنف والقيم البدوية»، نشر في 2006. و«السرورية» 2007. و«الولاء والبراء، آيديولوجية المعارضة السياسية في الإسلام» 2007. و«الإخوان المسلمون والسعودية الهجرة والعلاقة» 2010. قدم عدداً من الأوراق البحثية للعديد من مراكز الدراسات والصحف. شارك في العديد من المؤتمرات والندوات، وهو خريج جامعة المقاصد في بيروت في تخصص الدراسات الإسلامية.
TT

الجندي القطري المجهول

نصب الجندي المجهول هو نصبٌ يرمز للجنود المجهولين الذين بذلوا الغالي والنفيس خدمة لأوطانهم ودفاعاً عن حياضها والتضحية بالأرواح رخيصة في سبيل رفعة الوطن وحماية أرضه وسيادته، وتستخدمه الكثير من الدول لتكريم أولئك الجنود وتصنع منهم نموذجاً تقتدي بهم الأجيال.
لكن هذا الأمر لا ينطبق على قطر الدولة الحديثة؛ فهي لم تنتصر ولم تنهزم لأنها لم تخض حرباً، لكنها أغرقت المنطقة والعالم في مؤامراتٍ رخيصة، وتدخلاتٍ في الشؤون الداخلية لأشقائها، ومناصرة لكل خصوم الدول المقاطعة لقطر، ودعمٍ لا محدودٍ لكل جماعات وتنظيمات الإرهاب من الإخوان المسلمين إلى السرورية، ومن تنظيم القاعدة إلى تنظيم داعش، ومن «حزب الله» إلى ميليشيا الحوثي.
إذن، فكيف يصح إطلاق «الجندي القطري المجهول» في هذه الحالة؟ إنه يصح باعتبارٍ مختلفٍ، وهو أن جنود قطر المجهولين هم فئاتٌ ليس منهم قطري واحدٌ، بل هم أتباع جماعات الإرهاب وتنظيماته السنية والشيعية مع بعض بقايا القوميين واليساريين، وكل من رهن نفسه للمال القطري الملوّث بالخيانة والغدر والتآمر.
«الجندي القطري المجهول» يمثل جيشاً من الخونة والمرتزقة الذين رهنوا مصيرهم بنجاح مؤامرات قطر في تفتيت الدول العربية وضرب وحدتها واستقرارها ونشر استقرار الفوضى، فمنهم مثقفون وكتّاب، ودعاة وخطباء، ومن يسمّون بالمفكرين، وإعلاميون وأصحاب فضائياتٍ وصحفٍ ومواقع إخبارية ومعرفاتٍ مشهورة في مواقع التواصل الاجتماعي، وكذلك أصحاب مؤسساتٍ خيرية وحقوقية، أو مراكز دراساتٍ أو دور نشرٍ، فيهم عربٌ وفيهم أجانب، وبغض النظر عن التيار الذي ينتمون إليه أو الدور الذي يقومون به فالجامع الأكبر لهم هو المشاركة، كلٌ بحسب استطاعته في خدمة الأجندة القطرية التخريبية.
في معارك الأوطان الكبرى لا مكان في المنتصف، إما أن تكون مع الوطن وإما أن تكون ضده، والوطنية ليس فيها تصنيفاتٌ وتأويلاتٌ، فهي سهلة وميسورة، يعرفها حتى غير المتعلّم، والحياد في معارك الوطن خيانة تحت أي مسمّى تم تسويقها أو تحت أي ذريعة تمّ ترويجها.
لسنواتٍ مضت ظلّ بعض الوطنيين يشتكون أمرّ الشكوى من عداوة قطر وجيوشها من «الجندي القطري المجهول»، والذين كانت عداوتهم ظاهرة وتخطيطهم مكشوفاً، وظلّ هؤلاء الوطنيون يؤملون في موقفٍ سياسي واضحٍ يكشف المستور، ويحوّل المعرفة الخاصة لدى بعض الباحثين إلى معرفة عامة لكافة الناس، وأهم من هذا إلى موقفٍ سياسي حازمٍ يوقف ذلك التآمر والعبث، وهو ما جرى أخيراً بعد اتخاذ الدول الأربع السعودية والإمارات ومصر والبحرين قرار مقاطعة قطر، ففرح محبو أوطانهم وخنس «الجندي القطري المجهول».
بعد قرار مقاطعة قطر تمّ وضع النقاط على الحروف، ويمكن للقارئ مراجعة مواقف الكثير من تلك الوسائل والمؤسسات والأفراد فسيجدها قسمين: الأول، من له مكانٌ يحتمي فيه من شر العقوبات على قطر، فهم يصرّون على دعمها في سياسات العداوة والتيه؛ لأن لهم مصالح خاصة في تفتيت دول الخليج والدول العربية، وهؤلاء تتضح أمثلتهم في بعض الفضائيات وموظفيها من غير المواطنين القطريين، وفي بعض وسائل الإعلام بأنواعها وبعض المؤسسات بأشكالها، فهم مستمرون في تقديم النصح للقيادة القطرية بالتصعيد وعدم الرجوع للحضن الخليجي ومصالحهم في هذا ظاهرة بينة. أما القسم الآخر، فهو من يمثل «الجندي القطري المجهول» في هذا السياق، وهم خدمة المشروع القطري التخريبي داخل أوطانهم عبر سنواتٍ طوالٍ، والغالبية العظمى من هؤلاء أعلنت أو التزمت بما يمكن تسميته «الصمت الاستراتيجي» أو الانسحاب من المشهد العام أو اختيار الحياد والاختباء خلف تعبير «الفتنة»، وما الفتنة إلا سياسات قطر ومشروع قطر وخيانات قطر ومؤامراتها، ولكنه عمى الآيديولوجيا أو طمع المصالح.
الغريب حقاً أننا لم نجد في كل جيوش «الجندي القطري المجهول» أحداً اعترف بسذاجته وغبائه وانخداعه، وبالتالي تراجعه بعد تكشف الحقائق وفضح العداوة والتآمر القطري ضد وطنه؛ ولذلك كان الخيار هو الصمت أو الانسحاب أو الانشغال بقضايا ثانوية لمن عجز عن الخيارين الأولين، أو محاولة الظهور بمظهر الوطني المختلف الذي لا يقول حرفاً عن سياسات قطر ولا وسائل إعلامها ولا مؤامراتها، لكنه يركز على موقف الوطنيين في بلاده، وأن فيه أخطاء أو مبالغات أو غيرها من الحيل.
هذا في الحقيقة ليس موقفاً محايداً، ولا وطنية مختلفة، هذا موقفٌ داعمٌ لقطر بتشتيت الانتباه عن المعركة السياسية والأمنية المستحقة مع قطر، وفذلكة فكرية في غير مكانها. أي وطنية تلك التي تجعل الإنسان يصمت عن الآلاف من الضحايا والقتلى والجرحى، وسيلٍ من دماء أبناء وطنه العسكريين والمدنيين تمّ بفعل سياسات قطر ومؤامراتها! وأي وطني يسكت عن التخريب القطري المتعمد الذي كلف ميزانيات وطنه المليارات تلو المليارات للحفاظ على الوحدة الوطنية والاستقرار! هذه بكل بساطة عمالة مقنعة وليست وطنية مختلفة ولا حياداً.
أمرٌ آخر لا يقلّ غرابة، وهو أن أحداً من جيوش «الجندي القطري المجهول» لم يعتذر بأن وطنه لم يتخذ موقفاً سياسياً معلناً ضد قطر في السنوات الماضية، وقد يكون في هذا عذرٌ، ولكن أحداً لم يعتذر به، لا لشيء إلا لأنه يجبر من يعتذر به على أن يغير رأيه اليوم بعد الموقف السياسي التاريخي ضد سياسات قطر وتخريبها ودعمها المتواصل والواسع للإرهاب بكل أنواعه، وهو ما يبدو أن أحداً منهم لا يريد التصريح به.
ما بعد قمم الرياض الثلاث ليس كما كان قبلها على كافة المستويات، لقد شرعت المنطقة والعالم في مشروعٍ مستقبلي جديدٍ يقضي بشكلٍ محكمٍ على الإرهاب والتطرف وينتهي من التخريب والفوضى وكلّ داعميها، والمعركة بدأت بقطر، ولن تنتهي فيها، وعلى كلّ المنتمين إلى جيش «الجندي القطري المجهول» أن يتبيّنوا مواضع أقدامهم؛ فالمعارك الكبرى على مرّ التاريخ كانت تخاض أولاً بتصفية الجبهة الداخلية من العملاء والخونة.
هذه ليست بأي حالٍ دعوة لمكارثية جديدة من أي شكلٍ أو لونٍ، لكنها دعوة للعودة لحضن الأوطان والبراءة من أخطاء الماضي وخطاياه، وتقديم الغالي والنفيس خدمة للوطن ولأفضاله التي لا تحصى، ومن يقرأ في تاريخ المكارثية في أميركا يعلم أن الأوطان، حتى أكبر الدول الديمقراطية منها، لا ترضى بشق الجبهة الداخلية تحت أي ذريعة أو مبررٍ.
أخيراً، لم تزل أمام المنتمين إلى جيوش «الجندي القطري المجهول» فرصة للعودة لأوطانهم والتكفير عن خطاياهم وكشف ما لم يكشف بعد من خطط التآمر والخيانة التي كانوا شركاء فيها بعلمٍ أو بجهلٍ.