أنتوني بلينكن
نائب وزير الخارجية الأميركي
TT

قصة «داعش» لم تنته بعد

يشكل تحرير الموصل – عاصمة الأمر الواقع لخلافة «داعش» الموهومة في العراق – نقطة تحول مهمة في مسار الحرب ضد أخطر تنظيم إرهابي في العصر الحاضر. ولم يعد تنظيم داعش، وهو الاسم الموسوم به التنظيم الإرهابي في منطقة الشرق الأوسط، يسيطر على أي أراضٍ مهمة في العراق يمكنه من خلالها تأمين الملاذ الآمن للمقاتلين الأجانب، أو استغلال الموارد المتاحة هناك مثل النفط.
ولقد تمزقت دعاوى التنظيم الإرهابي – التي بنيت على الوجود الفعلي لخلافته المزعومة – شرَّ ممزق. ولكن في حين احتفال إدارة الرئيس ترمب بالقضاء على «داعش» بمعناها الذي نعرفه، فمن المبكر للغاية الشعور بالارتياح، ولا سيما في غياب استراتيجية ما بعد «داعش» في العراق.
قبل 15 عاماً ماضية، وفي بداية عهد الرئيس الأسبق جورج دبليو بوش وتحركه نحو غزو العراق، أثار السيناتور جوزيف بايدن وريتشارد لوغار تساؤلات مهمة: ما هي مسؤولياتنا في العراق بعد رحيل صدام حسين؟ ولم يأخذ هذا التساؤل حقه من البحث والتمحيص، لكن تبين فيما بعد أنه من أكثر التساؤلات أهمية.
ومع استبدال «داعش» مكان صدام حسين في ظل التساؤل المشار إليه، نجد أنفسنا في مواجهة مسألة شديدة الإلحاح اليوم. وحتى مع الهزيمة الساحقة التي تلقاها التنظيم الإرهابي عسكرياً، فإن الظروف السياسية والاقتصادية التي يسّرت نشأته وصعوده أول الأمر – والتي تهيأت إرهاصاتها الأولى مع الغزو الأميركي لعام 2003 – سوف تواصل التعمق والتفاقم. فكيف، مع كل ذلك، يتسنى لنا ضمان استمرار هزيمة «داعش» في قابل الأيام؟
ومن المسائل شديدة الأهمية حالياً، هي بذل الجهود وتوظيف الموارد بغية استقرار، وتأمين، وحوكمة المدن المحررة ثم إعادة إعمارها حتى يمكن للسكان المشردين والنازحين من العودة إلى منازلهم آمنين.
والأنباء السارة في هذا السياق تتمثل في تحالف الدول الـ68 الذي تقوده الولايات المتحدة لمحاربة التنظيم الإرهابي، قد جمعت الأموال اللازمة للبدء في تنفيذ هذه العملية المهمة من خلال منظمة الأمم المتحدة. وهناك خطة مماثلة يجري تحديد معالمها بشأن سوريا.
غير أن الحرب الأهلية المستمرة هناك تجعل من تنفيذ هذه الخطة أمراً عسيراً للغاية، كما تبيّن من البطء الشديد الذي يغلف محاولات إعادة مدينة الطبقة السورية إلى الحياة مرة أخرى، تلك المدينة المحررة قبل شهرين ماضيين، والتي تعتبر بوابة الوصول إلى مدينة الرقة، العاصمة الأولى لخلافة «داعش» المزعومة في سوريا.
ومن التحديات القائمة والأكثر صعوبة هي ما سوف يأتي بعد ذلك. فهناك ما يقرب من 25 مليون مسلم سني يعيشون بين بغداد ودمشق. ولقد تم عزلهم بصورة تامة عن حكومات بلادهم. وما لم يتم بذل الجهود اللازمة لإقناعهم بأن بلادهم سوف توفر لهم الحماية والأمان وليس القمع والاضطهاد، فإننا على مسار ملاقاة «النسخة الثانية» من تنظيم داعش الإرهابي مع بحر هائل من المجندين والمؤيدين الجدد والمحتملين.
وتوفر البيئة الطائفية العراقية الحالية أفضل فرص النجاح في ذلك. لكن إن تركناهم وشأنهم، فإن قادة هذه المناطق سوف يهيئون الظروف القاتمة نفسها التي مهدت الصعود الأول للتطرف الإرهابي العنيف. ولسوف يصطف جيران العراق وراء كل فصيل يمالئهم ويؤيدونه؛ مما يعزز العقلية صفرية النتائج في واقع العراق ذاته.
وهنا يأتي دور دبلوماسية الولايات المتحدة. فلا يمكن للولايات المتحدة إملاء نتائج الأحداث على العراق صاحب الحكومة والسيادة. لكنها يمكنها تأييد، وتحفيز، وتعبئة أولئك الذين يرغبون في وضع العراق على المسار الصحيح.
ويبدأ ذلك بدعم ما وصفه رئيس الوزراء العراقي حيدر العبادي بـ«الفيدرالية الفاعلة»، بمعنى منح المواطنين العراقيين على مستوى المحافظات، درجة من المسؤوليات الذاتية والموارد المهمة ذات الفاعلية الأكيدة في حفظ الأمن، وتوفير الخدمات، والمدارس، وحوكمة حياتهم اليومية بصورة ذاتية.
وهذا من أنجع الوسائل، كما أتصور، لإقناع المواطنين العراقيين السنة بأن مستقبلهم داخل بلدهم العراق وليس مع تنظيم داعش «الجديد». ولقد اعتاد السنة في العراق معارضة الفيدرالية الداخلية لصالح الحكومة المركزية القوية، التي يتبنون استمرارها على نحو متزايد.
والدستور العراقي ينص على اللامركزية في شؤون الحكم، لكنه لم يدخل حيز التنفيذ الفعلي حتى الآن. ولسوف تصر طائفة داخل المجتمع الشيعي العراقي، المؤيد من طهران، على المحافظة على غنائم حكم الأغلبية، والحفاظ على دور بغداد المهيمن على ربوع البلاد، وعلى السنة بشكل خاص.
والبدء في تنفيذ الفيدرالية الفاعلة يبدأ بسريان مفعول القانون الحاكم للميليشيات الشيعية العراقية، والمعروفة إعلامياً باسم قوات الحشد الشعبي. إذ يجب وضع هذه القوات تحت سيطرة الحكومة المركزية، وإبعادها عن شؤون الحكم والسياسة، وبعيداً عن مناطق الأغلبية السنية كذلك.
ويجب، كذلك، إدراج الميليشيات السنية التي جرى تعبئتها للقتال ضد تنظيم داعش على قوائم رواتب الحكومة وتوليها المسؤولية عن تأمين أقاليمها الخاصة. ويتعين على بغداد أيضاً التأكد من أن استثمارات ومشروعات البنية التحتية لا تتجاوز المناطق السنية بحال.
وفي الوقت نفسه، ينبغي على إدارة الرئيس ترمب استخدام علاقاتها القوية مع الدول العربية من جيران العراق وممارسة الضغوط عليها من أجل مزيد من التفاعل والتشارك مع بغداد وتعزيز التكامل الإقليمي العراقي في المنطقة، مع تعزيز طموحات هذه المناطق.
إن غيابهم عن العراق قد ترك فراغاً كبيراً احتلته إيران. ودعمهم غير المشروط لكل المطالب السنية بات يغذي العصبيات الطائفية التي مكنت إيران من الولوج إلى بغداد، والمخاطرة بتمزيق العراق ومستقبله.
كما أن الطموحات الكردية أصبحت تشكل تحدياً من التحديات الكبيرة والمزعزعة لاستقرار العراق. إذ دعا زعيم الإقليم الكردي، مسعود برزاني، إلى إجراء استفتاء شعبي حول استقلال الإقليم وإعلان قيام الدولة الكردية في سبتمبر (أيلول) المقبل.
وفي الأثناء ذاتها، استفاد الأكراد كثيراً من القتال ضد تنظيم داعش للسيطرة على 70 في المائة من الأراضي في شمال العراق، التي هي محل نزاع قائم بين العرب والأكراد، والتي لن يتخلى عنها الأكراد بسهولة أو هوادة. وحلم الاستقلال الكردي هو من الأحلام الكبيرة والقوية، التي تحل محل القلب في طموحات وإرث السيد برزاني.
غير أن الاندفاع المتهور سوف يؤدي إلى إثارة غضب كل من بغداد والسنة في العراق، ناهيكم عن ذكر تركيا وإيران. وإن كانت أسعار النفط العالمية منخفضة للغاية اليوم، فسوف يواجه الأكراد صعوبات شديدة على سبيل الاكتفاء الذاتي.
وهنا أيضاً، ينبغي على الولايات المتحدة استعادة دورها بصفتها وسيطاً أميناً وموثوقاً. فلا بد من إبرام صفقة ما تمنح الجانب الكردي قدراً أكبر من السيطرة على موارد النفط في أراضيهم، في حين الاحتفاظ بنشر القوات الفيدرالية في الخارج والتفاوض بشأن المسؤولية المشتركة حول مدينة كركوك العراقية الغنية بالنفط. ولن يحدث ذلك من تلقاء ذاته.
وهناك سؤال أخير: ما نوع الوجود العسكري الأميركي، إن وجد، الذي ينبغي بقاؤه في العراق للمساعدة في ضمان عدم صعود تنظيم داعش على مسرح الأحداث الإقليمية مرة أخرى؟
عكس الانسحاب الأميركي لعام 2011 الواقع وقتذاك، وهو أن السواد الأعظم من العراقيين كانوا يريدون رحيل القوات الأميركية عن أراضيهم. أما الآن، وبعد إفاقة العراق من الكابوس الداعشي المظلم، قد تكون هناك رغبة متزايدة في الاحتفاظ بالمزيد من الوجود العسكري الأميركي بهدف تدريب القوات العراقية وتمكينها، ومن أجل إتاحة الاستخبارات ودعم مكافحة الإرهاب – لكن ليس من أجل المشاركة الفعلية في العمليات القتالية.
كيف يكمن لإدارة الرئيس ترمب التحرك عبر حقل الألغام السياسي؟... هذا سوف يكون من الاختبارات القاسية وربما الحاسمة لاستراتيجيتها في الأيام المقبلة.
*خدمة: «نيويورك تايمز»