نظراً للانتقادات الكثيرة التي وجهت إلى الرئيس دونالد ترمب، قد يفاجأ الكثيرون بالقول إن تصرفات الإدارة الأميركية حتى الآن بشأن القدس منطقية إلى حد بعيد، بالمقارنة بتصرفات الإدارة السابقة.
أولاً، لم يفعل ترمب ما هدد به في السابق. لم ينقل السفارة الأميركية إلى القدس في اليوم الأول، ولا حتى في اليوم المائة لتنصيبه. وعلى رغم تصريحاته الكثيرة، فقد استمر الرئيس في التسويف بصورة لم نعهدها من قبل منذ عهد الرئيس بيل كلينتون.
ثانياً، رغم أن المستوطنين الإسرائيليين اعتقدوا أن الرئيس ترمب كان سيسمح لهم ببناء المستوطنات بوتيرة لم يعهدوها في الخمسين عاماً الماضية، لم تسمح إدارة ترمب بإطلاق العنان لبناء المستوطنات، عكس ما يخشى الجميع. وأوضح ترمب لنتنياهو، في فبراير (شباط) الماضي، أنه يريد أن يرى تراجعاً في بناء المستوطنات.
في الواقع، لم تجرؤ إسرائيل على أن تعلن عن خططها لبناء مستوطنات شرق القدس المحتلة إلا بعد مرور ستة أشهر على تولي ترمب للرئاسة، فيما جرى تجميد خطط الاستيطان الجديدة.
وفي 6 يوليو (تموز) الماضي، أعلنت بلدية القدس عن مشروعين لإنشاء مستوطنتين جديدتين على امتداد الخط الأخضر في القدس المحتلة. ويعنى إجمالي الخطط إنشاء 1800 وحدة سكنية إضافية في عدد من المستوطنات، بزيادة 3.3 في المائة من إجمالي الوحدات السكنية الاستيطانية بشرق القدس منذ عام 1967، ناهيك بخطط أخرى من المتوقع اعتمادها في الفترة المقبلة. وتعد الوحدات السكنية التي بلغ عددها 114 وحدة، والتي جرى اعتمادها بمختلف ضواحي فلسطين، إهانة حقيقية للفلسطينيين، في ضوء العجز المتفاوت في الوحدات السكنية الذي يواجهه الفلسطينيون.
وقد تضمنت الخطط بناء منازل للمستوطنين تحل مكان مباني الفلسطينيين في الضواحي العربية بالشيخ جراح، وسمحت إسرائيل بذلك على اعتبار أن الأرض كانت في الأساس ملكاً لليهود. غير أن هذا الإجراء يعتبر أحادي الجانب بالطبع، لأن الفلسطينيين في القدس وفي غيرها ليس من حقهم المطالبة بالأراضي التي فقدوها عام 1948، وما زالوا يحتفظون بالأوراق التي تثبت ملكيتها.
لكن هذا الأمر يبدو ملتبساً، فقد أعلن البيت الأبيض عن معارضته لبناء المستوطنات «من دون قيود»، بالقوة نفسها التي يعارض بها التوقف عن بناء المستوطنات نهائياً «لأن ذلك من شأنه الإضرار بعملية السلام». ومن الواضح أن هذا الموقف يمكن تفسيره بطرق عدة. فتصريحات الإدانة الصادرة عن الدول الأوروبية خرجت أقوى من أي وقت مضى، إلا أن إسرائيل اعتادت على ذلك النوع من الانتقادات الشكلية.
لكن إن أراد ترمب أن يكون كبير صانعي الصفقات، فتنفيذه لهذه الخطط سيزيد من تعقيد نتائج أي مفاوضات مقبلة. فالتساهل في السماح ببناء تلك المستوطنات سيأتي على حساب الأراضي الفلسطينية، وسيضيق ما تبقى من أراضيهم التي تعانى من الازدحام الخانق.
وسيؤدي ذلك أيضاً إلى تفاقم حالة التوتر في المدينة، وهو ما لا يظهر في الإعلام الذي يستند إلى المزاعم الإسرائيلية التي تروج لأن تلك المدينة تتمتع بقدر من التلاحم. لكن الواقع يقول إنه ليست هناك مدينة أشد انقساماً من تلك المدينة، فاليهود الإسرائيليون لا يزالون غير قادرين على المغامرة بدخول الضواحي الفلسطينية شرق القدس، حرصاً على سلامتهم، في ضوء الاعتداءات التي حدثت في السابق. وفي المقابل، لا يتجه الفلسطينيون إلى غرب القدس إلا في حالات الضرورة، وإن حدث فكثيراً ما يتعرضون للضرب. وبحسب تقارير إسرائيلية، فقد شنت منظمة «ليافا» اليمينية المتطرفة عدداً من الاعتداءات وسط القدس، ولا تتحرك الشرطة الإسرائيلية لمنع ذلك.
وغالباً ما يسود التوتر في الضواحي الفلسطينية خلال ساعات الليل. وفي السنوات الثلاث الماضية، تعرض نحو 10 في المائة من الأطفال الفلسطينيين من الفئة العمرية بين 12 و18 سنة للاعتقال. وأتذكر أنه في عام 2014، وقبل تفجر الصراع على غزة، اشتد القتال في القطاع، مما أدى إلى مقتل صبي في الخامسة عشرة من العمر، يدعى محمد أبو خضير، بعد تعرضه للتعذيب والحرق حتى الموت.
ولا تزال أصداء القصة تتردد حتى الآن. ففي يوم 14 يوليو الحالي، أصدرت المحكمة العليا الإسرائيلية حكماً بعدم هدم بيت عائلات الثلاثة المدانين بقتل الصبي محمد خضير. ومن دون شك، فإن هذا القرار جاء صائباً لأن العائلات لا يجب أن تدفع ثمن جرائم الآخرين، لكن المشكلة هنا هي أن كل الفلسطينيين في القدس، وفي بقية مناطق الضفة الغربية، يدركون أن بيوتهم ستهدم فور وقوع أي عملية، كنوع من العقاب الجماعي. وقد باتت بيوت فلسطينية كثيرة في مواجهة هذا الاحتمال الآن، فمن إجمالي نحو 60 ألف بيت فلسطيني في القدس الشرقية، هناك ما بين 15 إلى 20 ألف منزل بنيت من دون ترخيص، ولذلك فهي عرضة للإزالة، نظراً إلى أن استصدار التراخيص مهمة شبه مستحيلة للفلسطينيين، ولا تتعدى تصاريح البناء الممنوحة في القدس للضواحي الفلسطينية نسبة 7 في المائة.
وعلى الأرض، فالمدينة مقسمة لكن بصورة قانونية، إذ يتلقى الفلسطينيون معاملة تمييزية، وإن كانت قانونية، تتضح أكثر وأكثر عندما تتفحص الأوضاع في بقية أنحاء الضفة الغربية خارج القدس، حيث يتعين على الفلسطينيين العيش في ظل الحكم العسكري الإسرائيلي. وتتمثل الأزمة الأخرى في الحرم الشريف، حيث تعمل الفلسطينيات بنشاط كبير على حماية المكان. وينبئ رفع الحظر المفروض على زيارة أعضاء الكنيست للحرم الشريف، الشهر الحالي، بمزيد من الصدامات في أكثر مناطق العالم سخونة.
لقد بات الوضع بالغ الخطورة، وأصبح أشبه بالبنزين الذي ينقصه عود ثقاب ليشتعل في الهواء، فالتحالف الإسرائيلي الهش بات عرضة للتفكك، بعد أن أعلنت أحزاب اليمين المتطرف مشاركتها في الانتخابات المقبلة لإزاحة بنيامين نتنياهو.
وعلى الجانب الآخر، تبدو السلطة الفلسطينية أضعف من أي وقت مضى، ولا تملك أي سلطات داخل القدس. والفلسطينيون المقدسيون يشعرون بالتجاهل، وقد زاد في داخلهم شعور بأن عليهم القتال في سبيل قضيتهم، ولذلك سيكون الصيف الحالي ساخناً وطويلاً.
* رئيس مجلس التفاهم العربي - البريطاني / لندن
* خاص بـ«الشرق الأوسط»