عثمان ميرغني
كاتب وصحافيّ سوداني، نائب رئيس التحرير السابق لصحيفة «الشرق الأوسط». عمل في عدد من الصحف والمجلات العربية في لندن. متخصص في الشؤون السياسية والعلاقات الدولية ومهتم بقضايا الاقتصاد العالمي والمناخ والبيئة.
TT

من تورا بورا إلى الموصل والرقة... ما هو الدرس؟

قبل ثلاث سنوات ومن على منبر جامع النوري الكبير في الموصل، أعلن أبو بكر البغدادي زعيم ما يسمى «الدولة الإسلامية» قيام دولة الخلافة المزعومة على أجزاء من العراق وسوريا. وخلال عام واحد تمدد «داعش» ودولته المزعومة ليوسع مساحة نفوذه في العراق، وليسيطر على مساحة تصل إلى 90 ألف كيلومتر مربع في سوريا، معلنا تشكيل 8 ولايات فيها، دعا إليها المتطوعين، وشغل منها العالم بعملياته ودعاياته واستعراضاته المميتة.
الأسبوع الماضي وفي تاريخ إعلان «الدولة الإسلامية» المزعومة استعادت القوات العراقية المدعومة من التحالف الدولي، مسجد النوري أو ما تبقى منه بعد أن فجره مقاتلو «داعش»، وأعلن رئيس الوزراء العراقي حيدر العبادي انتهاء «دويلة الباطل الداعشية». في الوقت ذاته كانت «قوات سوريا الديمقراطية» المدعومة من الولايات المتحدة، تتقدم في الرقة عاصمة دولة الخلافة المزعومة بعدما خسر «داعش» أراضي شاسعة أمام تقدم الأكراد وحلفائهم من جهة، وقوات النظام السوري المدعومة من روسيا وإيران و«حزب الله» وميليشيات محلية وعراقية من جهة ثانية، وقوات المعارضة المدعومة من تركيا من جهة ثالثة.
اختفى أبو بكر البغدادي، الذي لم يكن له أصلا ظهور كثير، تاركا وراءه بقايا التنظيم والمقاتلين، ومخلفا تكهنات واسعة حول مصيره وما إذا كان قد قتل، أم أنه يختبئ في منطقة على الحدود العراقية - السورية، ليظهر في وقت لاحق ثم ينتهي بطريقة مشابهة لنهاية أسامة بن لادن.
لكن مع الاستعداد لإعلان وشيك عن طرد «داعش» بالكامل من الجيوب التي حصر فيها بالموصل، ومع التقدم السريع لقوات سوريا الديمقراطية في الرقة، يبقى السؤال هو: هل يعني ذلك أن «داعش» انتهى بالفعل وأن العالم ارتاح من شروره؟
الانتصار على التنظيم في الموصل والرقة، قد يكون نهاية لـ«الدولة الإسلامية» المزعومة، لكنه لا يعني بالضرورة نهاية «داعش»، وبالتأكيد لا يعني نهاية للإرهاب. هذا على الأقل ما تعلمناه من تجربة دحر «القاعدة» ودولة طالبان في أفغانستان، وهروب قيادات التنظيم الإرهابي من كهوف تورا بورا بينما كانت قوات التحالف تلاحقهم من الجو والأرض. فطالبان عادت لتوسع هجماتها اليوم في أفغانستان، و«القاعدة» أطلت برأسها من مناطق أخرى، وأحيانا بمسميات جديدة ورايات مختلفة.
«داعش» موجود في مساحات أخرى من سوريا، وفي ساحات مختلفة خارجها. وقد رصد الخبراء أنه بدأ يلجأ منذ فترة إلى أساليب وتكتيكات جديدة منها استخدام الألغام اللاصقة، والطائرات من دون طيار (الدرون)، وكثف من عمليات القناصة وعمليات الكر والفر بعدد قليل من المقاتلين. فالتنظيم تعلم من تجارب أفغانستان والعراق والصومال أن كل ما عليه أن يعمل من جانبه على استمرار مظاهر الفوضى وعدم الاستقرار وانعدام الأمن التي تسمح له بالوجود والتقاط الأنفاس، ويعتمد بعد ذلك على فشل القوى الأخرى في تحقيق الاستقرار، وفي استمرارها في صراعاتها التي تبقي بؤر التوتر والاقتتال مفتوحة، بينما يستمر النفخ في الطائفية، ويتواصل الفشل في ترسيخ قيم التعايش والتسامح.
العراق لم يعرف استقرارا حقيقيا منذ غزو 2003 وحتى اليوم، والظروف التي سمحت ببروز الزرقاوي وبعده البغدادي، وهيأت لظهور «داعش» لا تزال موجودة في ظل عدم الاستقرار السياسي، والتدخلات الخارجية، وتمدد غول الطائفية. بل إن الأوضاع قد تنزلق نحو مطبات أصعب تعقد الصراع بعد استفتاء كردستان المقرر في سبتمبر (أيلول) المقبل، وإحساس العرب السنة في العراق بخطر مزيد من التهميش.
أما سوريا فإنها بعد أزيد من ست سنوات من الاقتتال، لا تزال أبعد ما يكون عن الاستقرار، وأقرب ما يمكن إلى التمزق والتفكك. فالوصفة التي أججت الأوضاع العراقية موجودة في سوريا أيضاً، بل زادت تعقيدا مع التجاذب الروسي - الأميركي، وتنامي الصراع الإقليمي والنفخ الطائفي.
يمكن للساسة أن يحتفوا بهزيمة «الدولة الإسلامية» المزعومة، لكن لا يمكن لأحد أن يجزم بأن «داعش» دحر وانتهى بعد الموصل أو الرقة. فما دامت هناك قوى تتصارع على السلطة غير آبهة بما يحدث لأوطانها، وما دام هناك فشل في تحقيق التعايش، وردع الطائفية، وترسيخ مفهوم المواطنة وقيم التسامح، فإن «داعش» أو «القاعدة» أو غيرهما من تنظيمات الإرهاب ستبقى تهدد المنطقة، وتستنزف طاقاتها، وتعصف باستقرارها، وتلعب دورا في بعض مخططات التقسيم الجارية.
فما يحدث في العراق أو سوريا أو ليبيا اليوم، وما حدث قبل ذلك في الصومال وأفغانستان، تكرار لدرس بأن «داعش» و«القاعدة» وغيرهما من تنظيمات الإرهاب ستتوالد وتستمر ما دامت البيئة الداخلية هي بيئة صراع واقتتال وعدم استقرار، وما دامت هناك قوى تؤجج هذه الأجواء، وتسمح بتدخلات خارجية لا تعود بخير على أحد.