فؤاد مطر
أحد كتّاب الرأي والتحليل السياسي في «الشرق الأوسط» ومجلة «المجلة» منذ العام 1990 وقبلها عمل صحافياً وكاتباً في «النهار» اللبنانية و«الأهرام». نشر مجلة «التضامن» في لندن وله 34 مؤلفاً حول مصر والسودان والعراق والسعودية من بينها عملان موسوعيان توثيقيان هما «لبنان اللعبة واللاعبون والمتلاعبون» و«موسوعة حرب الخليج». وثَّق سيرته الذاتية في كتاب «هذا نصيبي من الدنيا». وكتب السيرة الذاتية للرئيس صدَّام حسين والدكتور جورج حبش.
TT

زمن الكيل الطافح

يعيش العالم وبالذات على مدى قرن مضى ويؤسس كما يبدو في الأفق لربع قرن جديد، حلقات في مسلسل الكيل الطافح.
في صراعه الملتبس مع كوريا الشمالية يردد الرئيس دونالد ترمب بين الحين والآخر عبارة طفْح الكيل مع كوريا الشمالية. لكن الزعيم الأوحد لكوريا الشمالية كيم جونغ أون حفيد كيم إيل سونغ الذي طالما طفَحَ الكيل لدى أسلاف ترمب من تحديات هذا الجد ثم لاحقاً من تحديات وريثه ابنه كيم جونغ إيل يرد على تهديدات ترمب الطافح كيله باستهانة وبتجارب باليستية مرفقاً إياها بلقطة مصورة للصاروخ المنطلق ولقطة أخرى للزعيم الكوري الشمالي المبتهج بانطلاق صاروخه فرِحاً محاطاً بجنرالات يغمر الفرح محيا كل منهم، ويأمر بإنتاج المزيد وبسرعة من الصواريخ التي تعترض عليها أميركا!
وعندما يكون رد الفِعْل الكوري الشمالي على مناورات أميركية - كورية جنوبية بمشاركة حاملة طائرات أمر ترمب بإرسالها إلى الساحل الكوري هو الوعيد ـ«هجمات وضربات بلا رحمة وفائقة الدقة من البر والجو والبحر» يشنها جيش كوريا الشمالية «في حال خدشوا ولو جزءاً من سيادة وكرامة الدولة»... إنه عندما يكون هذا أسلوب التخاطب من دولة صغرى إلى دولة عظمى، يصبح من الطبيعي أن يرتفع منسوب طفْح الكيل ويصبح لا بد للرئيس ترمب مِن وضْع حد تأديبي لهذا الزعيم الكوري الشمالي المتحدي ويقول بصريح العبارة: «إن نزاعاً كبيراً جداً مع كوريا الشمالية أمر محتمَل وأن كل الخيارات مطروحة» لكننا نجد وزير الدفاع جيمس ماتيس الذي رغم سمعته بأنه شرس ولا تستوقفه المغامرة العسكرية الصعبة، وهذا معروف عنه وجيء به وزيراً للدفاع على هذا الأساس، يمارس بالدبلوماسية محاولة تخفيف منسوب طفْح الكيل لدى الرئيس ترمب ويقول بالصوت العالي «إن الخيار العسكري ضد كوريا الشمالية لوقْف برنامجها النووي والباليستي سيكون مأساوياً إلى درجة لا يمكن تصورها...» مفضلاً المحادثات والتعاون مع الصين المتحالِفة بشكل ما مع كوريا الشمالية على نحو تحالُف إيران الخامنئية مع قطر، لكن كوريا كيم جونغ أون تشترط للتحادث «التراجع عن السياسة المعادية لها» من جانب أميركا الترمبية.
طفْحُ الكيل لدى ترمب من كوريا الشمالية يتشابه مع طفْح الكيل من إيران الخامنئية التي كلما فُرضت عقوبات عليها ترد بالأسلوب الكوري الشمالي نفسه، مع إضافة تهديدات بين الحين والآخر تستهدف إسرائيل، ومِن هذه التهديدات المتزامن إطلاقها مع عقوبات فرضتْها الإدارة الأميركية على النظام الإيراني وعلى قياديين في منظمات خارج إيران محسوبة عليه مثل «حزب الله» في لبنان «حين يقول قائد الثورة خامنئي إننا سنُسوي تل أبيب وحيفا مع الأرض في غضون سبع دقائق لو لزم الأمر، فلا مزاح في الأمر...».
ما يقال حول مسألة طفْح الكيل بالنسبة إلى ترمب، يقال أيضاً بالنسبة إلى آخرين مع اختلاف التعبير. وعلى سبيل المثال لا الحصر أن طفْح الكيل لدى كل من المملكة العربية السعودية ودولة الإمارات ومملكة البحرين وجمهورية مصر العربية من السلوك غير الودي من جانب قطر تُرجم إلى عقوبات اقتصادية تلاها تحديد مهلة العشرة أيام لتنفيذ مطالب من شأن تنفيذها كتابة صفحة جديدة من العلاقات المنزهة عن التحرش وما هو أكثر من ذلك. وعندما لا يتسم رد الفعل القطري بتعقل على مسعى التسوية الكويتي ويتم تمديد المهلة يوميْن إضافييْن فمِن أجل ألا تكون الترجمة الرباعية لطفْح الكيل إيلاماً ما بعده علاج للأخ الصغير المشاكس.
طفْح الكيل العربي - الدولي من العناد البشَّاري يتنقل من شهر إلى شهر من دون أن يحسم القادرون على الحسم هذا التلاعب في مصير البلاد وحياة العباد. ونتيجة طفْح الكيل من المغامرين الحوثيين كان لا بد من معالجة اختلط فيها العزْم بأمل الحسم مع اعتبار المتطلبات الإنسانية دواء وغذاء وطبابة من ضمن استراتيجية الدور الإنقاذي للشعب اليمني.
والمتأمل في أوضاع لبنان المستضاف إكراهاً من نحو مليوني نازح سوري، يرثي لحال هذا الوطن المغلوب على أمره، وكيف أن اعتياده على التعايش مع حالات تفرز أنواعاً من طفْح الكيل، يجعله لا يجد علاجاً للضيوف السوريين المقدَّر أن يتساوى عددهم خلال خمس سنوات نزوح مستقر مع عدد السكان الأصليين.
ما أوردناه في السطور السابقة هو مجرد نماذج عن ظاهرة طفْح الكيل التي يتساوى في المعاناة منها الكبار كما الصغار كما الذين بين بين.
لكن يبقى طفْح الكيل من الذي يفرزه الدور القَطَري بمثابة حالة صداع قد تفرز تصدعاً ليس في الحسبان إذا كان المسؤولون القطريون لن يستبدلوا بالعناد الحكمة والحنكة تفادياً لما يأمر به الكتاب لجهة الإمساك بمعروف أو التسريح بإحسان وعلى مبدأ أن مَن يتعدى الحدود فإنه يظلم نفسه، كما تفادياً لتعليق عضوية على نحو السابقة العربية إزاء مصر الساداتية مع الأخذ في الاعتبار أن ذلك التعليق كان أبغض الحلال شأنه في ذلك شأن الطلاق في منظور رب العالمين. ولكن للضرورة من أجل تقليل الضرر إجراءات.
أعان الله الأمة على مغامرات الذين لا يحمدون نعمته ولا يشكرون. وقصَّر زمن الكيل الطافح بأمل زمن يسود فيه السلام على الأرض وتملأ المحبة نفوس الجميع وقد خلت الأرض تماماً من «داعش» وأخواتها.