د. عبد المنعم سعيد
عضو مجلس الشيوخ المصري حالياً، ورئيس مجلس إدارة «مؤسسة المصري اليوم» الصحافية في القاهرة، ورئيس اللجنة الاستشارية لـ«المجلس المصري للدراسات الاستراتيجية»، وسابقاً كان رئيساً لمجلس إدارة «مؤسسة الأهرام» الصحافية، و«مركز الأهرام للدراسات الاستراتيجية»، و«المركز الإقليمي للدراسات الاستراتيجية»، وعضو مجلس الشورى المصري. كاتب في صحيفة «الشرق الأوسط» منذ عام 2004، و«الأهرام» و«المصري اليوم»... وعدد من الصحف العربية. أكاديمي في الجامعات والمعاهد المصرية، وزميل زائر في جامعة «برانديز» الأميركية، ومؤلف للعديد من الكتب.
TT

المباراة القطرية

كثيرا ما يخضع علماء السياسة الدولية العلاقات بين الدول لما يسمى نظرية المباريات أو «Game Theory»، وفي أحيان فإن هذه المباريات أخذت شكل ما يجري على رقعة الشطرنج من تحركات وتحركات مقابلة، حتى يصل الطرفان إما إلى التعادل عندما يستحيل إنهاء المباراة أو ينجح أحدهما في هزيمة الطرف الآخر. وفي أحيان أخرى فإن المباريات أخذت أشكالا نمطية مثل مباراة «الدجاج» التي تقوم على المواجهة بين طرفين تطورت إلى السير في طريق الصدام، ويصبح الاختبار هو أي الطرفين يجفل وينحرف عن الطريق تجنباً لانفجار الموقف. وفي أحيان ثالثة فإن المباراة تأخذ شكل جماعة في سجن واحد ولكنهم منعزلون عن بعضهم البعض، ويصبح على كل منهم أن يقرر ما إذا كان يعترف على القاتل في جريمة أو يمتنع عن قول أي شيء، ومثل ذلك يقال له إنه مأزق السجين. بالطبع فإن هناك تركيبات مختلفة من هذه الأنماط، وفي الواقع العملي للعلاقات الدولية فإنها أكثر تعقيدا بكثير من أي منها، ومع ذلك فإن الاقتراب من حدث دولي ربما يمكن فهمه بشكل أكبر عندما يوضع في شكل المباراة، والأكثر أهمية من الفهم أن مثل هذا المقترب ربما يساعد على وضع السياسات المناسبة لطرف من الأطراف، أو ربما يساهم في حل الأزمة.
بشكل ما فإن العلاقات بين قطر ودول مجلس التعاون الخليجي كانت تسير على السطح في مسارها المعتاد، بينما في الواقع كانت دول المجلس تعرف جيدا أن ما يبدو هادئا من الخارج لا ينبغي له أن يغفل ما تقوم به الدوحة من عمليات خداع عميقة تقوم على المخالفات الجمة للاتفاق الذي تم عام 2014، في أعقاب قيام دول المجلس بسحب سفرائها من العاصمة القطرية احتجاجاً على سلوكيات قطرية داعمة للإرهاب وعدم الاستقرار في المنطقة ومعادية لدولة حليفة: مصر. في الرابع من يونيو (حزيران) المنصرم لم تكن مياه كثيرة قد مرت تحت الجسور القطرية الخليجية منذ الاتفاق السابق، وإنما سلسلة من المخالفات القطرية الفجة لما تم التوصل إليه، مصاحبة بعمليات للعب على الحبال بين دول المجلس من ناحية وإيران من ناحية أخرى، وباختصار فإن قطر لم تعد تتصرف كدولة حليفة في تحالف خليجي وإنما كطابور خامس لدول أخرى تتناقض مصالحها مع دول المجلس. ومن هنا كان التحرك من قبل السعودية والإمارات والبحرين ومصر لمقاطعة قطر عبر مجموعة من التحركات التي شملت قطع العلاقات الدبلوماسية والتجارية والبشرية، باختصار عزل قطر عن دول المجلس المجاورة. كان التحرك قوياً، ولكنه لم يكن عنيفا، كان لاسعاً، ولكنه لم يكن حارقاً، كان منبهاً ولكنه لم يستهدف فقدان الدوحة لوعيها. وبالتأكيد كان هدف التحركات تغيير السياسات القطرية وليس المساس بالدولة القطرية. جذب التحرك تأييد اليمن ودول أخرى في المنطقة إما أنها قطعت العلاقات الدبلوماسية، أو أنها خفضت من علاقاتها مع الدوحة كرسالة استهجان للسلوك القطري. الولايات المتحدة على لسان ترمب أيدت دول المجلس، واستنكرت سلوكيات قطر المساندة للإرهاب، حتى ولو أبقت وزارة الخارجية الأميركية الباب مفتوحاً للوساطة التي تولتها دولة الكويت.
التحرك القطري كان كاشفاً أكثر للموقف الحقيقي للدولة القطرية، فلم تعد لا دولة حليفة ولا عضواً في مجلس التعاون لدول الخليج العربية ولا عضواً في التحالف الإسلامي، وإنما ارتمت فوراً في الأحضان الإيرانية والتركية لخلق معادلة استراتيجية تتصورها كافية لاعتدال الميزان الاستراتيجي؛ ولكنها كانت كاشفة للشعب القطري أين تبتعد قطر، وإلى أين تقترب؟ التحرك السياسي جرى في لغتين: العربية والإنجليزية. باللغة العربية انفتحت الأبواق القطرية في قناة الجزيرة وكافة القنوات التلفزيونية والصحافية التابعة للإخوان المسلمين في الدوحة وإسطنبول ولندن، ومعها دارت الآلة الإعلامية الإرهابية بكافة أنواعها لكي توضح بجلاء لمن يشك أو يتوجس الروابط المالية واللوجيستية بين قطر والجماعات الإرهابية المختلفة. وباللغة الإنجليزية، وربما بنفوذ من شركات العلاقات العامة، استخدمت قطر عدة أساليب في تعريف الموضوع وكيفية التعامل معه. أولها أن ما يجري هو «أزمة» من الأزمات المعتادة بين العرب، لا علاقة لها لا بموضوع الإرهاب، ولا تهديد الاستقرار في دول مجاورة، ولا خيانة لتحالف، وإنما أزمة لا يليق بالدول المشاركة فيها أن تتمادى بينما المنطقة كلها تحترق، ولا تحتاج أزمة أخرى إضافية. وثانيها وما دام أن الأمر «أزمة» فإن ما يحكمها هو القانون الدولي، لا اتفاقيات 2014، ولا الحرب الدولية ضد الإرهاب، ولا ميثاق مجلس التعاون بين دول الخليج العربية، ولا الجامعة العربية، ولا التحالف الإسلامي. وثالثها أن ما يجري ليس «مقاطعة» من دول بغرض تغيير سياسات معادية، وإنما هي «حصار» لدولة صغيرة. بالطبع فإن الفارق كبير بين المفهومين، فلم تكن المقاطعة العربية تشمل منع لا الموانئ القطرية ولا المطارات من العمل، ولا منع التواصل بينها وبين الدول الأخرى. ورابعها، وكأن قطر دولة ليبرالية من الطراز الأول، فقد حاولت الدبلوماسية القطرية متسلحة بحزمة عزمي بشارة وشلة من القوميين العرب على اليسار، والإخوان المسلمين ويوسف القرضاوي على اليمين، أن توحي بأن «الأزمة» و«الحصار» سببهما الليبرالية والانفتاح القطري، في مقابل المعادين لحرية التعبير وفضيلة الحوار. وخامسها اللعب على عامل الزمن، فمع مرور الوقت يمكن لقطر أن تتغنى بالانتصار على حصار لم يحدث.
كل هذه التحركات القطرية لا تعني الكثير من الناحية الاستراتيجية بالنسبة للدول التي قررت التحرك لتغيير السياسة القطرية المؤيدة للإرهاب والمعادية للعمل من أجل عودة الاستقرار السياسي في المنطقة كلها. هنا لا ينبغي للضجيج القطري أن يؤثر على المعركة الرئيسية، ولا حتى يسمح لدول أخرى أن تستغل عملية تغيير السياسات القطرية في تحقيق مآرب أخرى. السعودية والإمارات والبحرين ومصر خاصة يحتاجون لكثير من الرؤوس الباردة خلال هذه المرحلة، وبينما تقوم الدبلوماسية بواجباتها في الساحة العالمية لكي تضع كل الأمور في نصابها الصحيح، فإن عملية عزل قطر وتضييق الخناق على السلوك القطري تبقى مستمرة مع عدم فقدان البوصلة بين ما هو رئيسي وما هو ثانوي. اليمن وليبيا وسوريا وفلسطين هي الأهداف الرئيسية التي ستقرر مصير الشرق الأوسط لسنوات وعقود قادمة؛ أما المباراة القطرية فهي على الهامش، وإعطاؤها أكثر مما تستحق من تركيز يعطي النخبة الحاكمة في الدوحة مكانة لا تستحقها. هنا فإن توسيع التكتل العربي الحالي لكي يشمل دولا أخرى مهمة مثل الأردن سوف يخلق منظومة عربية قادرة على تغيير توازنات القوى في المنطقة. باختصار كل هذا يكون حقيقة واقعة تضع قطر في حجمها من ناحية، وتخوض معركة مصير مستقبل المنطقة العربية ضد الإرهاب والفوضى والتدخل الأجنبي من ناحية أخرى. وقديما قيل إن فضائل الأزمات أنها تعرفنا الفارق بين العدو والصديق!