ستيفن كارتر
TT

التسريب الصحافي والمحكمة العليا الأميركية

مع انتهاء عام قضائي آخر من المحكمة العليا الأميركية، والذي كان عاماً مليئاً بالقرارات المتوقعة والمفاجئة، ربما ينبغي علينا التوقف للحظات للنظر في تساؤل مهم للغاية في هذه الأثناء: لماذا ليست هناك تسريبات عن المحكمة العليا؟ لقد بلغت بقية أنحاء الهيكل الحكومي في واشنطن نقطة صارت فيها السرية مزحة خفيفة. فلماذا لا ينسحب الأمر على المحكمة العليا؟
أنا لا أقول إنه ليست هناك أسرار تتسرب من بين جنبات هيكلنا القانوني المحترم. ففي عام 2012 نشرت شبكة «سي بي إس» الإخبارية قصة مفادها أن القاضي جون روبرتس غيّر رأيه بشأن القرار الخاص بقانون الرعاية بأسعار معقولة. مما أسفر عن صدمة لدى مراقبي أعمال المحكمة العليا. وتكهّن بعض الخبراء حول شخصية مسرب هذه المعلومات إلى الصحافة.
ولكن الأمر في حدّ ذاته يوحي بأن التسريب وقتذاك لم يكن مثيرا للاهتمام. فقضاة المحكمة العليا يغيرون آراءهم طيلة الوقت، وفي الهيئة التداولية التجسيدية كمثل المحكمة العليا، قد يأمل المرء أن يكون هذا صحيحا. على الرغم من أن الكشف عن العمليات الداخلية بعد ثلاثة أيام من اتخاذ القرار يعتبر سبقاً صحافياً في عالم القضاء، فإن الأمر العسير على الصحافيين هو معرفة نتائج إحدى القضايا المعلقة. وما جعل من قصة القاضي روبرتس مادة صحافية ثرية لم يكن محتوى القصة، وإنما حقيقة أن المحكمة العليا الأميركية فعلا هيئة عصية على التسريب.
كانت المرة الأخيرة التي تم فيها تسريب قرار من القرارات القضائية في عام 1986. عندما نشر تيم أوبراين من شبكة إيه بي سي الإخبارية ليس فقط نتائج القرارات، وإنما أيضا التصويت الفعلي في قضية بوشر ضد سينار، وأثر القرار كثيرا على قانون غرام - رودمان - هولينغز للموازنة. ولقد مضى أكثر من ثلاثة عقود على هذه الحادثة، حيث اعتدنا خلالها على قراءة عشرات التقارير الإخبارية حول أسرار السلطة التنفيذية في البلاد، ولا سيما تلك المعنية بأجهزة الاستخبارات والأمن القومي. وخلال كل هذا الوقت، وعلى الرغم من الاهتمام الكبير بالقرارات القضائية الصادرة، استقرت المحكمة العليا في معبدها الرخامي... وقورة ورزينة وراسخة، كمثل قدس الأقداس الذي لا يمكن الاقتراب منه أو اختراقه.
فلماذا الفرق؟ إحدى الإجابات الشائعة تقول إنه من الصعب للغاية على المسرب أن يفلت من العقاب. فإن موظفي المحكمة العليا قليلون للغاية، ودائرة المعرفة الداخلية بالقرارات والآراء المعلقة هي أصغر وأصغر. وعلى وجه التحديد، فإن الكاتب القضائي الذي يتحدث مع الصحافيين قد يجد نفسه مطرودا من وظيفته ومعرضا للعقاب. وبطبيعة الحال كلما انخفض عدد الناس المطلعين على الأمور انخفض مستوى التسريبات المحتملة.
وهناك حجة أخرى تنشأ من حقيقة مفادها أن زراعة مصدر موثوق منه داخل الدائرة القضائية المغلقة يستهلك وقتا كبيرا ومجهودا مضنيا من الصحافيين. وقد يكون الوقت والجهد المبذول معقولا عندما يكون المصدر الداخلي قادرا على الوصول إلى الأسرار الحكومية لسنوات ممتدة. ولكن المصدر الأكثر احتمالا للتسريبات في المحكمة العليا الأميركية - وهم الكتاب القضائيون مرة أخرى - يتغيرون كل عام. وليست هناك من فائدة مرجوة من استهلاك شهور من العمل ومحاولة تحويل الموظف القضائي إلى مصدر للمعلومات، إذا ما كان الموظف سوف يختفي من وظيفته هذه للعمل في القطاع القانوني الخاص أو يشغل إحدى الوظائف الأكاديمية.
وهذا يؤدي إلى نقطة ثالثة، وهي أن المحكمة العليا في واقع الأمر تميل لأن تكون أكثر سرية، عندما يتعلق الأمر بوسائل الإعلام المختلفة. ولقد أشار إلى هذا العالم السياسي تايلر جونسون عندما قال إن المثير للاهتمام ليس كثرة التغطيات الصحافية التي تحظى بها المحكمة العليا ولكن ندرتها هو المثير للاهتمام. ووفق أغلب التقديرات، هناك عدد غير قليل من الصحافيين المكلفين تغطية الأخبار القضائية وأعمال المحكمة العليا على الدوام الكامل. وبالمقارنة، هناك ثمانية صحافيين فقط لدى صحيفة «واشنطن بوست» في فريق البيت الأبيض على سبيل المثال. وبالنسبة إلى جميع الصحافيين تقريبا، فإن تغطية أخبار المحكمة العليا يعني نقل قرارات المحكمة وردود الفعل التي تحركها هذه القرارات. وهذا من قبيل الاستثمار المحدود للغاية للموارد في الهيئة القضائية التي يُناقش مستقبلها في الحملات الانتخابية الرئاسية من حيث الإشارة إلى أن العالم سوف ينهار إن فاز بالانتخابات المرشحون السيئون.
ولا شك أن كل هذه العوامل تلعب دورا في قدرة المحكمة العليا على الاحتفاظ بأسرارها. وحتى مع اعتبار هذه العوامل كلها فإن هذه التفسيرات ليست كافية، ولا سيما في العصر الذي يعيش فيه الكثير من الناس بشكل صريح للغاية. فإن وسائل الإعلام الاجتماعية ومحادثات المساء العارضة مفعمة بالكثير من المعلومات التي كانت الأجيال السابقة تعتبرها من البيانات الخاصة. ولكن لماذا لم تتأثر المحكمة العليا بهذه الثرثرة المفرطة؟
دعوني أتقدم باقتراح بناء على تجربتي القديمة المعترف بها. خلال عملي ككاتب قضائي لمدة عام كامل في المحكمة العليا الأميركية، أتذكر حادثتين فقط سألني فيها الصحافيون عن بعض المعلومات، إحداهما كانت عبر هاتف العمال والأخرى في حفلة من الحفلات. وبالطبع لم أخبرهما بأي شيء على الإطلاق. ولكن ليس هذا مربط الفرس. بل كان المثير للاهتمام وقتها هو رد فعلي العاطفي على الأمر. فلقد كنت غاضبا ومستثارا للغاية.
وأعتقد أنه حتى يومنا هذا، فإن أغلب العاملين في المحاكم سوف تساورهم المشاعر نفسها في مواقف مماثلة. ومع العدد القليل من الموظفين الذين يرتادون ممراتها وأروقتها الواسعة، فإن المحكمة العليا قادرة على غرس إحساس بالهدف المشترك وروح الفريق بين جموع العاملين هناك والتي لا يمكن بحال توافرها في الهيئات البيروقراطية الضخمة. وليس فقط الكتاب القضائيون الذين يتغيرون في كل عام هناك، ولكن الجميع ممن يعملون في المبنى يبدو وأنهم يتقاسمون هذا الالتزام المقدس بالعائلة الواحدة المتماسكة. واستفسار العناصر الخارجية عن القضايا التي لم تتخذ فيها القرارات في المحكمة يعتبر من قبيل إهانة وحدة الهدف المشترك بالمحكمة العليا، وإمداد العناصر الخارجية بالمعلومات يعد من قبيل التجديف والإهانة الشديدة.
ولذلك كان رد فعلي غاضباً للغاية: وللصحافي الذي يظن أنه يمكنني خيانة ثقة زملائي فهو يضرب في أصل إيماني بهذه المؤسسة العريقة. وبالنسبة للعاملين فيها، فإن الخصوصية من المهمات الضرورية لأعمال المحكمة. وربما يقول بعضهم إن حجاب السرية القضائية يماثل الرأي القضائي المكتوب والذي هو المنتج الرئيسي للمحكمة العليا الأميركية.
وبطبيعة الحال سوف يزعم كثير من الوكالات الحكومية الأخرى اعتمادها للمطالبات نفسها. ولكنها لن تكون سوى مزاعم واهية. ومع تزايد نمو الوكالة، ومع تعدد الفروع وتباعدها عن بعضها البعض، يصير من الصعب إمالة المصباح لاتجاه دون الآخر. فكل الموظفين في مبنى المحكمة العليا يعرفون بعضهم البعض بدرجة ممتازة. والمناخ العام هناك حميم للغاية. ودائرة المعرفة الداخلية ضيقة جدا. ويعمل الكتاب القضائيون مباشرة لخدمة أرباب العمل الأقوياء، ومن دون وسطاء فيما بينهم، وهي العلاقة التي لا تولد فقط الاحترام المتبادل ولكن المودة العميقة أيضا. وليس هناك مقاول من شركة بعيدة يمكنه تحميل بعض المعلومات السرية. وليس هناك موظف مظلوم يجلس وحيداً في مقصورة عمل بعيدة. والمحكمة العليا الأميركية عصية على التسريب بسبب أنها أدركت منذ زمن بعيد كيفية المحافظة على الجدران السرية، التي تفصل المداولات الداخلية عن بقية أرجاء العالم: إنها دائرة صغيرة وسرية ومحدودة للغاية.
*بالاتفاق مع «بلومبيرغ»