دعونا نتصور مشروع «التاريخ التطبيقي» الصيني، الذي يماثله مشروع اعتمده مركز بيلفر بجامعة هارفارد، ذلك الذي ساعد على ظهور كتاب «الحرب المقدرة» لمؤلفه البروفسور غراهام أليسون، الذي نوقشت أطروحاته على نطاق واسع.
أدى التحليل التاريخي للبروفسور أليسون إلى طرح «فخ ثوسيديدس» ومخاطر - إن لم تكن حتمية - نشوب الحرب بين الصين الصاعدة وأميركا المهيمنة، على غرار الحرب البيلوبونيسية القديمة التي اندلعت بين أثينا وإسبرطة في القرن الخامس قبل الميلاد، التي سرد وقائعها المؤرخ الإغريقي القديم ثوسيديدس. وحددت الدراسة التي أجراها مشروع مركز بيلفر للتاريخ التطبيقي 16 حالة مماثلة للدول الصاعدة في مواجهة الدول المهيمنة عبر القرون الخمسة الماضية، أسفرت 12 حالة منها عن نشوب حرب حقيقية. فماذا يقول الصينيون عن دروس التفاعلات الماضية مع الغرب؟
رفض المحللون الصينيون، من مستوى الرئيس شي جينبينغ وأقل، قبول طرح السيد أليسون المتشائم. وقال الرئيس الصيني بنفسه «ليس هناك فخ ثوسيديدس في واقع الأمر»، زاعماً أنه وُضع بديل لهذه الأطروحة مفادها «نمط جديد من العلاقات بين الدول العظمى» من شأنه تفادي نشوب الحرب من خلال الاعتراف بأنه لكل عملاق آسيوي صاعد مصالحه الخاصة والمشروعة. وفي الآونة الأخيرة، تحول الرئيس الصيني إلى القول بأن «على الصين والولايات المتحدة القيام بكل ما في وسعهما لتفادي الوقوع في فخ ثوسيديدس».
وهناك اعتراضات مماثلة طُرحت بشكل خاص على مدى الشهور القليلة الماضية من جانب مجموعة من كبار المسؤولين الصينيين، والتعاون المتواضع فيما بين الصين والولايات المتحدة في التعامل مع التهديد النووي، الذي تشكله كوريا الشمالية والذي يفتح باباً محدوداً للأمل في أن تكون هذه اللعبة مربحة للجانبين، على نحو ما كرر القادة الصينيون من دون كلل في الآونة الأخيرة. (بطبيعة الحال، إن كنت من الصقور المؤيدين لنظرية الفخ المطروحة، فإن هذه المزاعم تأتي من قبيل المهدئات المتملقة التي تشجع الولايات المتحدة على تجنب محاولة تصفية الحسابات مع القوة الصينية المتنامية).
ومن المقاربات الفكرية الجديرة بالاهتمام هي تصور النسخة الصينية من أطروحة أليسون (رغم أن إحدى نقاط ضعفها البارزة هي افتقارهم إلى وجود عالم سياسي بارز ومستقل مثله)، والذي قرر فحص الأمر من وجهة نظرهم الخاصة. فما الذي يمكن للصينيين تعلمه من التطبيق التاريخي للمواجهة التي تلوح في الأفق مع الولايات المتحدة المهيمنة؟
لا أعد نفسي خبيراً في التاريخ الصيني أو باحثاً بارزاً في السياسة الخارجية؛ ولذلك سوف يقتصر مقالي على تسليط الضوء على بعض مجالات الدراسة الممكنة للتحليل الافتراضي لحالة ثوسيديدس الصينية. ففي كل حالة، أتصور أن العلماء الصينيين المتوهمين سوف يطبقون مبادئ البروفسور أليسون للتاريخ التطبيقي (التي أرساها أولاً البروفسور الراحل إرنست ماي)، والتي بحثت في التماثل التاريخي لكل حالة مع سابقتها، وكيف هي مواطن الاختلاف، وكيف يمكن لمثل هذه الأدلة أن تفيد بتقدير حقيقي للأمور.
وفيما يلي لائحة مبسطة بمقترحاتي القابلة للبحث والاختبار، من وجهة النظر الصينية بطبيعة الحال:
1- لا يمكن اعتبار القوتين الاقتصادية والثقافية بديلاً عن القوة العسكرية. ولقد كانت الصين من القوى المهيمنة اقتصادياً وثقافياً عندما تواجهت مع القوة الأوروبية أول الأمر، غير أنها كان يعوزها القوة العسكرية ذات الدعم التكنولوجي الحقيقي. وهذا من الأخطاء الكبيرة.
2- الضعف يولد الازدراء. وقد أعربت القوى الغربية عن تعهدها بالولاء والاحترام لحكام الصين وأمراء الحرب فيها، غير أنه كان موقفاً تتخفى وراءه نوايا عدوانية مقنعة. ولقد وقع الصينيون في شرك الاستمالة والإفساد تحت مزاعم النفوذ الغربي. وهذا من الأخطاء القاتلة. ونقل البروفسور أليسون عن المؤرخ ثوسيديدس قوله: «إن الضعيف (وبالتالي الفاسد) يعاني مما يتعين عليه فعله». والقضاء التام على الفساد (أو على أقل تقدير السيطرة عليه) هو من الواجبات الصينية الرئيسية.
3- بشّر الغرب بالانفتاح بصفته سبيلاً من السبل التي يمكن للصين وغيرها من البلدان الآسيوية الأخرى استيعاب التكنولوجيا والخبرات الغربية المتقدمة من خلالها. غير أن الغرب استغل هذا الانفتاح لخلق حالة مستمرة من الاعتمادية. وحتى اليابان، التي تمكنت من إقامة قاعدة صناعية مذهلة، لا تزال معتمدة على إمدادات المواد الخام والطاقة الغربية. وهذا من الأخطاء الكبيرة. وكانت النتيجة نشوب الحرب الكارثية.
4- تعد شبكات المعونة والمساعدات المتنوعة من الأغطية الممتازة لتوسيع النفوذ والهيمنة والقوة العسكرية. ولقد كانت خطة مارشال الأوروبية من الخطط الكبرى لبث النفوذ الأميركي في ربوع أوروبا وكسر شوكة الاتحاد السوفياتي السابق، تحت مسمى تخفيف المعاناة الإنسانية للشعوب. وتحاول الصين استحداث خطط مماثلة من خلال المصرف الآسيوي للاستثمار في مشاريع البنية التحتية، والمشروع التعاوني التنموي المعروف باسم «حزام واحد وطريق واحدة». ولقد بذلت الولايات المتحدة الأميركية كل ما في وسعها للحيلولة دون مشاركة الدول الأخرى في المبادرات الصينية. وهذا من الأخطاء الكبيرة. إن التنمية الآسيوية هي خادمة مطيعة للسلطة والنفوذ الصيني.
5- تزعم الولايات المتحدة أن الشفافية والنظام الدولي القائم على القواعد هما أفضل ضمان للأمن للأطراف كافة. ولكن ما الذي يعنيه هذا في حقيقة الأمر، عبر مراتب التاريخ الحديث، أن الولايات المتحدة تضع القواعد التي يتعين على الآخرين احترامها والالتزام بها. والتقيد بـ«القواعد» من شأنه إحجام التوسع العسكري الصيني في بحر الصين الجنوبي (مما يسمح بفرض السيطرة الأميركية الدائمة هناك). وإن كان قرار التحكيم الفلبيني الصادر في العام الماضي قد دخل حيز التطبيق الفعلي، لكان أسفر عن تراجع كبير في استعراض القوة الصينية من خلال الجزر الصناعية المستحدثة والقواعد العسكرية المنشأة. وهذا من الأخطاء أيضاً. يعلمنا التاريخ أنه يجب على الصين الإعلان عن محدودية طموحاتها، واعتدال نواياها، ونزع الصفة العسكرية عن تطلعاتها الإقليمية — حتى مع توسع قوتها ونفوذها وإقامتها القواعد العسكرية التي تسمح لها بتحدي القوة البحرية الأميركية في بحر الصين الجنوبي.
لقد تحدثت كثيراً في هذا المقام حول بعض الحالات التي تؤدي بالكثير من المحللين إلى افتراض أن الصين العقلانية، التي تعتبر بدروس التاريخ الماثلة، سوف تتخير انتهاج المسار الذي يزيد من احتمالات المواجهة. ولكن ربما أكون على خطأ، وربما أن هناك بالفعل بديلاً لـ«نمط جديد من العلاقات بين الدول العظمى»، ذلك الذي يسمح بالوصول إلى نتائج مختلفة. وإنني في انتظار مثل هذا التحليل من النظراء الصينيين المتصورين للبروفسور غراهام أليسون.
*خدمة: «واشنطن بوست»
TT
هل الحرب بين الصين وأميركا حتمية؟
المزيد من مقالات الرأي
لم تشترك بعد
انشئ حساباً خاصاً بك لتحصل على أخبار مخصصة لك ولتتمتع بخاصية حفظ المقالات وتتلقى نشراتنا البريدية المتنوعة